آفاق بيئية : نجيب صعب
عام 2000 طلب مني الرئيس رفيق الحريري العمل مع باسل فليحان على إدخال الادارة البيئية، جنباً الى جنب مع الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية، في البرنامج الذي كان يعده للانتخابات النيابية. بعد تكليفه رئاسة الحكومة عقب فوز كتلته في الانتخابات، اعتمد الرئيس الحريري هذا البرنامج البيئي في البيان الوزاري الذي نالت حكومته الثقة على أساسه خريفَ ذلك العام. هكذا دخلت للمرة الاولى سياسة بيئية واضحة ومفصلة في برنامج حكومي في لبنان. وسيأتي يوم تُكشف العراقيل التي عطلت تنفيذ عناصر الخطة، رغم النيّات الحسنة والإرادة الصادقة للرئيس الشهيد.
أزمة البيئة في لبنان هي أزمة سياسة ونظام. فالتركيبة السياسية القائمة على تقاسم المصالح تشجع على التعامل مع الموارد والثروات العامة لا كملك وطني مشترك، بل كبقرة حلوب يتقاسمها النافذون باسم الطوائف والعشائر. وفي متابعة قضايا المقالع والكسارات ومكبات النفايات وقضم الأملاك العامة على الشواطئ والجبال، نجِد أمثلة عن خلط العام بالخاص وتغليب الشأن المذهبي والمناطقي على المصلحة المشتركة. نحن لا نفتقر إلى الخطط والبرامج السليمة، لكن نفتقر إلى الإرادة السياسية للتنفيذ. وإذا عدنا إلى سياسات بيئية تبنتها الحكومات منذ عشرين عاماً، نجد أن الحلول التي كانت صالحة آنذاك ولم يتم تطبيقها ما تزال صالحة إلى اليوم. وحين أقرأ الفصل الذي كتبتهُ عن البيئة في كتاب “خيارات للبنان”، الذي حرره نوّاف سلام وصدر عن “دار النهار” عام 2003، أكاد لا أستطيع إضافة شيء.
حين نتحدث عن المشاكل البيئية، تبرز في الطليعة مواضيع إدارة النفايات، وتلوث الهواء والمياه والأغذية والبحر والشواطئ، وتراجع الغابات والمساحات الخضراء، والإدارة السيئة للثروة المائية. لكن من أهم المعضلات التي تهدد سلامة البيئة ولا تلقى اهتماماً جدياً حتى اليوم مسألة تحديد استعمالات الأراضي، التي تؤثر في جميع شؤون البيئة. البلد يعامَل كعقار كبير معروض للبيع، ويمكن، بتفسيرات واجتهادات قانونية وبعض “الشطارة”، استثمار أي جزء من شواطئه وغاباته، عن طريق توظيف نفوذ المال والسلطة والطائفة.
هنا لا نتكلم عن الجرود والمناطق النائية فقط. إذ إن بعض المشاريع داخل بيروت أيضاً نموذج صارخ عن الإجرام البيئي، الذي يشارك في ارتكابه المستثمرون والسياسيون والمتنفذون. الفوضى التنظيمية واضحة في المجمّعات التجارية الضخمة والأبراج الشاهقة في بيروت، التي تبنى داخل مناطق سكنية مكتظة، بلا تراجعات ومساحات مفتوحة كافية، فتتسبب بزحمة سير خانقة وتلوث للهواء، فضلاً عن حجب الرؤية.
منذ العام 1994، تم الاعلان عن عشرات البرامج ذات التمويل الدولي في مجال البيئة، والنتيجة أننا اليوم لسنا أفضل حالاً عما كنا عليه قبل 25 سنة. فكأننا نركض واقفين في مكاننا ونلهث. وقد يكون البيان الوزاري للحكومة في تشرين الأول سنة 2000 المحاولة الأكثر جدية لمقاربة موضوع البيئة على المستوى الحكومي. فهو التزم وضع خطة بيئية ذات أولويات، وربط السياسة البيئية بالسياسة المالية عن طريق ضرائب رادعة وحوافز تشجيعية، ووعد بإنشاء المؤسسة الوطنية للبيئة كهيئة للبحث العلمي البيئي، لأن القرار السياسي الصحيح لا بد من أن يكون مرتكزاً إلى أساس علمي. لكن البيان الحكومي البيئي بقي بلا تنفيذ، والتقاعس في إقامة المؤسسة الوطنية للبيئة أدى إلى استمرار فوضى المشاريع والبرامج بلا تخطيط وتنسيق ومراقبة صحيحة. ولا تزال المعالجات محصورة في اطار الاسعافات الأولية التي يتولاها مجموعة من الهواة.
قبل وضع السياسات البيئية التفصيلية لا بد من تحديد الأولويات الوطنية، وبالتالي تعديل السياسات الاقتصادية لتخفيف الآثار السلبية على البيئة. وإن تقويماً رقمياً للثمن الباهظ الناتج عن إهمال الاعتبار البيئي كفيل بأن يقنع المخططين بإدخاله في أساس السياسات الحكومية. فالخسائر الاقتصادية الناجمة عن التدهور البيئي تفوق معدلات النمو بأضعاف.
من هذا المنطلق، يمكن المباشرة بوضع برنامج بيئي قابل للتطبيق، يقوم على الخطوات الأساسية الآتية:
– تنظيم وزارة البيئة وتفعيلها، واستكمال أجهزتها بالكفاءات، حتى تصبح قادرة على ادارة هذه القضايا: السياسات البيئية والتخطيط الاستراتيجي، التشريعات والقوانين، الصناعة وحماية المستهلك، النفايات، العلاقات الدولية بما فيها المعاهدات والمنظمات، الضجيج والسير، الماء والزراعة، المواد الكيميائية والمشعة، الهواء والطاقة، تغيُّر المناخ، الاعلام والتوعية.
– إنشاء المجلس الأعلى للبيئة، برئاسة رئيس الحكومة، كهيئة سياسية مكلَّفة مهمة التنسيق البيئي بين الوزارات والادارات المختلفة، ومخولة باتخاذ قرارات ملزمة.
– انشاء المؤسسة الوطنية لحماية البيئة، كجهاز مختص مهمته وضع الخطط والدراسات العلمية البيئية، لتكون أساساً يستند إليه أصحاب القرار. ولا بد من تخصيص ميزانية كافية لهذه المؤسسة، كي تقوم بعملها العلمي بالتعاون مع المجلس الوطني للبحوث العلمية والجامعات والشركات والمنظمات المختصة. ومن مهمات المؤسسة تنسيق المشاريع ذات التمويل الدولي ومراقبتها ونشر التقارير الدورية حول وضع البيئة في لبنان.
يترافق مع هذا تطوير برنامج بيئي قابل للتطبيق، يحدّد أولويات بالتعاون مع الوزارات والإدارات المختصة، تشمل: تنظيم وجهة استعمال الأراضي، نوعية الهواء، الطاقة النظيفة والمتجددة، إدارة المياه، الزراعة والغابات، الإدارة المتكاملة للنفايات، التربية والتوعية البيئية.
هذه أهداف جميلة ونبيلة وقابلة للتحقيق. لكن التحدي اليوم هو نفسه قبل عشرين عاماً، حين وضعت الحكومة في بيانها الوزاري أسس برنامج بيئي متكامل، لم يجد طريقه إلى التنفيذ. فهل يمكن تحقيق نهضة بيئية في ظل تدهور سياسي واقتصادي واجتماعي؟ وهل فات الأوان للانقاذ؟