آفاق بيئية : محمد التفراوتي
”هل يمكن أن تتقدم مجتمعات لا تقدّر علماءها؟ هذا السؤال ألحّ علينا مؤخراً، خلال مناسبات شهدناها في المنطقة العربية، كان يفترض أن تكون لعرض تقارير علمية ومناقشة سياسات وطنية واقليمية بناء على نتائجها، فكادت تتحول إلى لقاءات اجتماعية لا تتعدى حدود العلاقات العامة”.
بهذا التساؤل المؤرق افتتح الأستاذ نجيب صعب العدد 118 من مجلة “البيئة والتنمية” بعنوان “عالم في مجلس كافور”، مذكرا بكون الاجتماعات البيئية العربية يفترض أن تكون مجال لمطارحة الأبحاث العلمية وتلاقح الأبحاث ومناقشة التقارير السياسات الوطنية والإقليمية، بدل اقتصارها على اللقاءات اجتماعية …مستهجنا المجاملات الطاغية على معظم اللقاءات حيث “.
وأضاف الأستاذ صعب في نفس السياق أن معظم الوقت يمضي في المقدمات وكلمات المديح الشخصي، وينصرف أصحاب المعالي والسعادة بانتهاء المراسم البروتوكولية، ويضج الحضور ضجراً، فلا يبقى إلا قلة ووقت مستقطع للعلماء الذين عقد الاجتماع لسماعهم.
واستفسر كذلك عن كيفية تقدم المجتمعات التي لا تقدر علماءها، مستشهدا على ما سلف ذكره باحتجاج أحد ممثلي الدول المشاركة في اجتماع لأحد المجالس الوزارية الإقليمية، والتي عرض من خلاله ، العالم العربي المصري الكبير المقيم في الولايات المتحدة، والرئيس السابق لصندوق البيئة العالمي محمد العشري، نتائج تقرير التنمية البشرية، الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لأول مرة في العالم العربي حول قضية تغيّر المناخ ، مستعملا اللغة الإنجليزية شفهيا مع مصاحبة ذلك بالنص على شاشة كبيرة أُعدت خصيصاً لذلك بالعربية ، فضل اعن ترجمة فورية لمن يهمه الأمر .
واستعرض مدير تحرير مجلة البيئة والتنمية الأستاذ نجيب صعب ”محنة” العالم العشري في كون “واحد من ممثلي الدول، التي لم تشتهر باتقانها اللغة العربية، اعترض احتجاجاً، وهو ينفث دخان سجائره المتتالية حول طاولة الاجتماعات في القاعة المغلقة: ”كيف يُسمح لهذا العربي المصري الأصل أن يتحدث بالانكليزية في اجتماع عربي؟” عبثاً حاول العشري، بتواضع العلماء، أن يشرح أنه أعد النص الشفهي باللغة الانكليزية لأنه يعتمد على أصل التقرير، وقام بترجمته إلى العربية لتسهيل متابعته على الشاشة، والاستماع إليه عبر الترجمة الفورية، وأنه يعتذر عن ضعف لغته العربية بعد عقود من الاقامة والعمل في الخارج. لكن الاستاذ صاحب السيجارة أصرّ على متابعة تلقين العشري دروس اللغة. مندوب دولة أخرى علّق من الجانب المقابل للطاولة المستديرة أن لا حاجة للاستماع إلى عرض للتقرير، إذ أنه ”قديم وتم عرضه مرات عديدة سابقاً”. ويبدو أنه خلط هذا التقرير الجديد حول تأثير تغير المناخ على التنمية البشرية، مع تقارير عن مواضيع أخرى تم اعلانها خلال الشهور الماضية”. في حين وقف العالم الكبير المتواضع يستمع غير مصدّق لما يحصل مستجيبا ، بتواضع العلماء ،لتقديم نتائج التقرير ارتجالاً، بما تيسّرله من ذاكرة للغة العربية، يفيد الأستاذ صعب، تاركاً ملاحظاته المكتوبة المعدَّة بدقة جانباً.” وكان في التقرير أحدث المعلومات عن آثار تغيّر المناخ على المنطقة العربية، من المحيط إلى الخليج. فهل من يسمع؟” واسترسل الأستاذ صعب في افتتاحيته للعدد الجديد من المجلة في وصف نازلة أخرى من وضع العربي واصفا إياه بمجلس كافور الذي بُعث حيّاً ذلك أنه اجتمع مئات المدعوين حول طاولات الطعام في صالة أحد الفنادق الكبرى ، لحضور ”إطلاق ” تقرير حول وضع البيئة. “هذه المناسبة كانت بالفعل إعادة تدوير لمجموعة ”إطلاقات” سابقة للتقرير نفسه، الذي وُزّع ونُشر وأُعلن في مؤتمرات صحافية منذ عدة أسابيع. لكن ما جذب الجمهور إلى الحضور كان وعداً بحديث ونقاش مع الدكتور مصطفى كمال طلبه، رائد البيئة المصري العربي العالمي”.
وأضاف الأستاذ صعب بمشاعر ملؤها المرارة والاندهاش أن الحفل بدأ بمجموعة من الكلمات الترحيبية والتقديمية المطولة بمحضر أصحاب المعالي والسعادة المتصدّرين القاعة. ، تلتها مجموعة أخرى من الخطب البروتوكولية، ما إن انتهت حتى كانت ساعة ونصف ساعة من الزمن قد انقضت. حتى هذه اللحظة، لم يكن الحضور قد سمعوا شيئاً ملموساً عن التقرير المزمع ”إطلاقه”.
ذلك أن أصحاب المعالي والسعادة قاموا مغادرين القاعة، “إيذاناً بانتهاء المراسم البروتوكولية. بدأ اعلان النقاط الرئيسية في التقرير، وبعد الدقائق الأولى من فيلم تسجيلي عنه، ضج الحضور ضجراً، فتوقف العرض بلا انذار”.
“إثر ساعتين من المقدمات، ومن كلمات المديح الشخصي التي سبقتها، وكأن مجلس كافور بُعث حيّاً، كاد الناس ينسون أن بينهم عالماً هو الدكتور مصطفى كمال طلبه، هو بالذات من جاؤوا للاستماع إليه. وبتواضع العلماء، اعتلى طلبه المنبر، وقدم أدق المعلومات والتحاليل عن تحديات البيئة العربية، في حديث شائق أنسى الحضور محنة الساعتين السابقتين. وتجاوب الجمهور في حوار مفتوح لم يقلّ حرارة عن حديث طلبه”.مستثنيا وزير الري والموارد المائية المصري الدكتور محمود أبو زيد الذي بقي يستمع إلى الدكتور طلبه هذا الأخير الذي غادر على التو إلى أوسلو، لحضور حفل تسليم جائزة نوبل للسلام لآل غور واللجنة الحكومية الدولية للتغير المناخي، كضيف شرف، لأنه، كما جاء في الدعوة، عراب العمل البيئي الدولي، الذي كان قبل عشرين عاماً وراء تأسيس اللجنة الدولية للتغير المناخي. ووجد بذلك الأستاذ صعب مبررا لهجرة العقول العربية مختتما افتتاحيته بكلمة موجعة تنساب بين سطور الوضع العربي بقوله:
عفواً محمد العشري. نعرف الآن لماذا تبقى مهاجراً، ولا نلومك. وشكراً مصطفى كمال طلبه، لأنك تقودنا في تحدّي جدار الجهل البيئي.