بذور الهلال الخصيب تنجو من معارك حلب وفيضان النروج

محمد التفراوتي4 يونيو 2017آخر تحديث :
بذور الهلال الخصيب تنجو من معارك حلب وفيضان النروج

بيروت – “البيئة والتنمية”

في أيار (مايو) الماضي، انتشرت أخبار عن تسرب مياه إلى مستودع تخزين البذار في أرخبيل سفالبارد النروجي. خبر كهذا لم يكن ليحظى بأي اهتمام لو لم يكن هذا المستودع، الذي يعرف أيضاً باسم “قبو يوم القيامة”، عبارة عن مخزن عالمي للبذار شُيّد في باطن جبل متجمد على أطراف القطب الشمالي بهدف حماية الأصول الوراثية لمصادر الغذاء العالمي في حالات الكوارث، كانتشار وباء ما أو قيام حرب نووية.

المياه التي تسربت كانت ناتجة عن ذوبان الجليد في مدخل القبو بفعل موجة حر غير مسبوقة. وزارة الزراعة والأغذية النروجية ضخت المياه المتسربة بشكل فوري، ما أدى إلى انقاذ المخزون من التلف، اتخذت إجراءات وقائية لمنع تسرب المياه الموسمية في المستقبل.

قبو البذار العالمي في سفالبارد هو احتياط العالم من مجموعات المحاصيل، وهو يوفر الحماية حالياً لأكثر من 930 ألف نوع مختلف. ويضم هذا المخزون أكثر من مئة ألف عيّنة بذار من مناطق الهلال الخصيب ووادي النيل تم نقلها من مستودعات المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا)، الذي يتخذ من حلب مقراً له، حماية لها من المعارك التي اندلعت ابتداء من عام 2011.

يقع القبو على ارتفاع 130 متراً عن سطح البحر وبعمق 130 متراً في الصخور الرملية المستقرة زلزالياً، مما يجعله في مأمن نظرياً من أية مخاطر خارجية ومن آثار تغير المناخ. وتحفظ عينات البذار في حزم خاصة ضمن ثلاثة مغلفات عازلة للرطوبة، وتوضع في صناديق مختومة تكدس على رفوف ضمن القبو، وذلك في درجة حرارة اصطناعية تبلغ 18 درجة مئوية تحت الصفر. وفي حال تعرض أنظمة التبريد للخلل، تبقى العينات في درجة حرارة الجو المحيط التي تتراوح بين 3 إلى 4 درجات مئوية تحت الصفر.

يقدم قبو سفالبارد خدماته مجاناً منذ افتتاحه في عام 2008، شريطة ألا تكون العينات المراد حفظها معدلة وراثياً. وهو يمثل نسخة احتياطية لبنوك البذار التي يقارب عددها في العالم ألفي بنك. مهمته لا تنحصر فقط بحماية أصول المحاصيل في حالات الكوارث الكبرى، بل يوفر أيضاً شبكة أمان ضد الخسارة العرضية التي تحصل في البنوك الوراثية التقليدية بسبب سوء الإدارة والحوادث وفشل المعدات وخفض التمويل والكوارث الطبيعية، وكذلك الحروب والنزاعات الأهلية التي لطالما تسببت في تدمير البنوك الوراثية حول العالم.

فيضانات 2011 في تايلاند أغرقت بنوكها الوراثية وتسببت في فقدان بعض أصناف الرز الفريدة التي كانت مخزنة هناك إلى الأبد. ولم يكد البنك الوراثي الوطني الفيليبيني يتعافى من الأضرار الناجمة عن فيضانات 2006 حتى أتى عليه حريق في 2012. مجموعات البنوك الوراثية في كثير من البلدان تعرضت للضياع أو التخريب نتيجة الصراعات كما هي الحال في أفغانستان والعراق وبوروندي وراوندا وجزر سليمان.

النزاع في سوريا أثار مخاوف جدية حول وضع البنك الوراثي التابع للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) الذي يقع مقره بالقرب من مدينة حلب. إن خسارة محتويات هذا البنك لم تكن لتمثل خسارة للمركز فحسب، وإنما للبشرية جمعاء نظراً للتنوع الحيوي الهش الذي يتداعى في جميع أنحاء العالم.

المدير العام السابق لإيكاردا الدكتور محمود الصلح قال لمجلة “البيئة والتنمية” أن «أهمية بنك إيكاردا الوراثي تأتي من كونه ثاني أكبر بنك وراثي على مستوى العالم وفقاً لبيانات البوابة العالمية للموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة، التي يبلغ عدد العينات فيها 3,631,898 عينة محفوظة لدى 482 مؤسسة. بنك إيكاردا يحتل المرتبة الأولى في عينات محاصيل الأغذية والأعلاف، مثل أنواع العدس والفاصولياء والفول والفصّة، كما يأتي في المرتبة الثانية في البازلاء الحقلية والحمّص والشعير، وفي المرتبة الثالثة في الموارد الوراثية للقمح».

معظم العينات التي يحتفظ بها بنك إيكاردا جرى جمعها من منطقة الهلال الخصيب، والمرتفعات الحبشية في اثيوبيا، ووادي النيل، وهي المناطق التي شهدت أولى الممارسات لإنماء المحاصيل عبر التاريخ. العديد من أنواع العينات المحفوظة لدى إيكاردا انقرض الآن في موائله الطبيعية. هذه الموارد الحيوية توفر اللبنات الأساسية للمحاصيل التي تتمتع بمرونة أفضل تجاه تغير المناخ، وهذا ما يتيح فرصة أكبر لتعزيز الأمن الغذائي في وجه الآثار السلبية لتغير المناخ كالجفاف، ودرجات الحرارة الشديدة، وحالات تفشي الأمراض والآفات في مناطق جديدة.

أهم الخطوات التي اتبعها مركز إيكاردا للحفاظ على هذه الثروة الإنسانية من مخاطر النزاع الذي اندلع في سورية منذ عام 2011 كانت في «حفظ وتكرار جميع عينات المواد الوراثية القيمة التي يحتفظ بها بنك إيكاردا. 80 في المئة من هذه المجموعة جرى حفظها في قبو سفالبارد العالمي للبذار في النروج، كما تم حفظ 13 في المئة منها (28 ألف عينة) في كل من لبنان والمغرب» وفقاً للصلح.

حظيت جهود العلماء في المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة بتقدير الأوساط العلمية، خاصة بعد ما بذلوه من جهد في الحفاظ على البنك الوراثي الخاص بالمركز على الرغم من المخاطر التي كانت محدقة بهم، ولذلك استحقوا جائزة غريغور ماندل في آذار (مارس) 2015.

يقول الدكتور الصلح إن مركز إيكاردا «قام بإضفاء الطابع اللامركزي على حفظ مجموعته من المواد الوراثية التي لا تقدر بثمن، وهي تضم 154 ألفاً من السلالات والأقارب البرية للمحاصيل الغذائية والعلفية الرئيسية، وذلك من خلال إعادة بناء مجموعته الفعالة من المواد الوراثية في البنكين الوراثيين الجديدين اللذين أقيما في لبنان والمغرب، إلى جانب البنك الوراثي في سوريا».

في أيلول (سبتمبر) 2015، طلب مركز إيكاردا من قبو سفالبارد استرداد 128 صندوقاً تحتوي ما مجموعه 38 ألف عينة بذار من أصل نحو 117 ألف عينة تخص المركز، وذلك من أجل إكثارها في محطات البحوث الزراعية الجديدة التي أنشأها المركز في لبنان والمغرب، وذلك نتيجة لصعوبة الوصول إلى مقره الرئيسي قرب مدينة حلب. هذه كانت المرة الأولى التي يطلب فيها بنك وراثي استرداد بذار يحتفظ بها في “قبو يوم القيامة”.

وقد بذلت محطتا البحوث الزراعية في لبنان والمغرب جهوداً كبيرة من أجل إعادة بناء مجموعة إيكاردا الوراثية، وقامت بجني البذار الجديدة والطازجة من أجل توزيعها على المزارعين والعلماء والمطورين، بالإضافة إلى مجموعة صغيرة خططت لإعادتها إلى قبو سفالبارد لاحقاً، بهدف تخزينها من جديد.

بنكا لبنان والمغرب الوراثيان يحتفظان الآن بـ 35 ألف عينة من الموارد الوراثية الثمينة، ويساعد موقعهما الجغرافي في تطبيق اللامركزية، كما يحسّن من كفاءة توزيع البذار. يقول الدكتور محمود الصلح: «إن مركز إيكاردا يقوم سنوياً بتوزيع ما يقرب من 25 ألف عينة من المواد الوراثية على العاملين في الإكثار والعلماء والمزارعين في جميع أنحاء العالم، وذلك بهدف تعزيز الأمن الغذائي والتصدي لآثار التغير المناخي في البلدان النامية».

وكما كان مركز إيكاردا أول بنك وراثي يسترد بذاراً يحتفظ بها في قبو سفالبارد، كان المركز أيضاً أول بنك وراثي يعيد إلى القبو قسماً من أنواع البذار التي جرى إكثارها. ففي شباط (فبراير) 2017 أعاد المركز 14 ألف عينة من بذار الحبوب والبقوليات التي جرى إكثارها في لبنان والمغرب، بدل العينات التي سحبت في 2015. التعاون بين إيكاردا و “قبو يوم القيامة” نموذج للتعاون الدولي في مواجهة التحديات الكبرى التي تهدد أمن الغذاء العالمي.

(يُنشر بالاتفاق مع مجلة “البيئة والتنمية”)

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!