مكناس: محمد التفراوتي
كان جدي، سيدي محمد بن هاشم، رجلا زاهدا وناسكا لا يفتر عن تلاوة القرآن وذكر الله، آناء الليل وأطراف النهار. التدين كان طقسه اليومي، وسكينته تسري في أرجاء البيت كنسيم الفجر.
حين كان يود أن يعلمني درسا أو يهديني معلومة، كان يستدعيني بهدوء، ويطلب مني أن أقرب له كتابا، متعللا بأن نظره لم يعد يساعده. فأفهم حينها أنه بصدد إهدائي درسا في الحياة أو تأملا روحانيا.
كنت كاتبه الخاص. يقرأ علي ما يود مراسلته لأصدقائه في المغرب وخارجه، فأدونه على الورق بأسلوبه الرشيق وتعابيره البليغة التي ما زال صداها يتردد في أذني. كانت لغته أنيقة، وصياغته تعكس الود الذي يكنه للمرسل إليه.
كنت أزوده بأدوات الكتابة من محفظة خاصة به، أعدها بعناية وتضم أقلاما، وأوراقا مسطرة لكتابة الرسائل، وأغلفة، والطوابع البريدية. كنت أقتني هذه الأدوات من عند مولاي أحمد “الكتبي” في حي سيدي عمر، الذي كان يستقبلني بترحاب خاص ويعاملني بألفة واحترام، فقط لأنني حفيد سيدي محمد بن هاشم. وكان يمنحني الأفضلية، ويرفض غالبا أن يأخذ ثمن البضاعة، لكن جدي أوصاني مرارا بألا أستسلم لإلحاحه، فتعلمت كيف أتفادى المجاملة بلباقة، وأغادر بعد إتمام مهمتي متسللا بابتسامة.
في زمن كان البريد الورقي سيد أدوات التواصل، كان جدي يحرص على المراسلة المنتظمة مع أصدقائه ومعارفه، رجال من طينة خاصة، كأنهم انقرضوا. وكانت الرسالة تصل بعد أسبوعين أو أكثر، فيستقبلها المرسل إليه بشوق، ويقرأها على أهله في طقس مليء بالحنين.
وحين أنهي كتابة الرسالة وأدون العنوان بخط واضح، كنت أكتب جهتي الظرف. جهة المرسل إليه، وجهة المرسل، كما علمني جدي. ثم أبلل بلساني الطابع البريدي وأثبته بعناية في أعلى يمين الظرف، كل ذلك تحت نظرات جدي الدقيقة، التي كانت تتابع خطواتي باهتمام لا يغيب.
أحمل الرسالة كأني أحمل أمانة، وأتوجه بها إلى مركز البريد القريب، المتواجد بحي “دار السمن”، حيث أضعها في الصندوق الرئيسي. وكان جدي يوصيني دائما أن أسبق موعد جمع الرسائل اليومي، حتى ترسل في الوقت المحدد. لكن، وكم من مرة أخرتني شقاوة الطفولة ولهو اللعب مع أقراني عن أداء المهمة في وقتها.

أتذكر ذلك اليوم جيدا… لم أضع الرسالة في الصندوق كما ينبغي، وظللت أتهرب من لقاء جدي حتى لا يسألني عن مصيرها. كنت أعلم أني لا أستطيع الكذب عليه، فهو يقرأ الحقيقة في نبرات صوتي، وفي عيني، حتى دون أن أنطق بها.
أما نحن، فكنا ننتظر ساعي البريد وكأنه ضيف عزيز. ما إن يسمع رنين الورقة في صندوق الرسائل، حتى نهرول مسرعين لنستلمها. “إنها من مولاي الكاسو بوجدة”، أو “من سيدي محمد الأمراني من فرنسا”، أو “من مولاي المختار، ابن أخت الجد، إمام مسجد زايدة بميدلت”… كانت الرسائل ترد كل أسبوع تقريبا، ولكل منها حكايتها.
أسلوب الرسائل كان رفيعا، مملوء بالأدب الجم والشاعرية الرقيقة. وكان ساعي البريد يعرف مكانة جدي، فيحتفظ برسائله بعناية في جيب سترته، ويصر أحيانا على تسليمها يدا بيد. حينها، لا مفر من جلسة شاي وحديث دافئ يليق بجلال المناسبة.
أذكر مرة أن إحدى الرسائل تأخرت في الوصول، فسألني جدي بتدقيق عن العنوان الذي كتبته على الظرف. سردته له من ذاكرتي، وأضفت بفخر: “وكتبت أيضا شكرا لساعي البريد.” ابتسم جدي، ثم قال: “لذلك ربما لم تصل!” وأوضح لي أن عمالا آخرين في البريد يتولون مراحل كثيرة قبل أن تصل الرسالة إلى الساعي، فلا يصح أن نشكر واحدا دون البقية. وهكذا، تعلمت أن الامتنان لا يجزأ، وأن الصدق في التفاصيل يصنع الفرق.
وعندما يتأخر الرد على رسالة ما، كان جدي يقلق، فأرافقه إلى بقال الحي، الذي كان يتوفر على هاتف أرضي يجري منه أبناء الحي مكالماتهم، بنظام خاص يشبه “الوكالة”.
كان جدي، حين يريد محادثة ابنته للا فاطمة القاطنة في مدينة آزرو مثلا، يطلب المكالمة من البقال، فيبدأ هذا الأخير محادثة غامضة مع “إدارة الهاتف” وهو يردد: “ألو… ألو… نعم؟ الوكالة 2؟” — أي إن سعر المكالمة سيكون مضاعفا، رغم أن الأمر في الغالب لا يتجاوز كونه تمثيلية لرفع الثمن.
كنت أُحذر جدي همسا: “إنه لا يتحدث مع أحد، بل يحدث نفسه فقط!”
فيبتسم ويقول لي بهدوء:
“نعم، أعلم. لكن يجب أن نتظاهر بأننا نصدقه. لا يجوز أن نكذبه أو نحاججه. فهو في النهاية يقدم خدمة…”
وهكذا، من جدي تعلمت أن كرامة الناس أسمى من تفاصيل الربح والخسارة، وأن النبل أحيانا هو في السكوت، لا في الانتصار.
هنا تذكرت حكاية رواها لي أحد أقرباء جدي في طفولته. كان صغير السن، يتيم الأب، ترك لهم والدهم بعض النخيل في واحة تافيلالت، تعتاش منه الأسرة.
وفي طريقه إلى “الكتاب” لحفظ القرآن، كان يصادف أحيانا بعض أبناء الحي يتسللون إلى حقول الأسرة لقطف التمر من عراجين النخيل. لم يكن يصيح في وجوههم، ولا ينهرهم، بل يختبئ بصمت بين أشجار الحقل، حتى ينتهوا من أخذ ما أرادوه.
وحين تعود أمه وتجد ثيابه متسخة بالتراب، كانت تسأله عن السبب. فيحكي لها القصة بهدوء، فتتعجب وتقول له: “لم لا تدافع عن رزقنا؟”
فيرد عليها بكلمات بسيطة، لكنها عظيمة في معناها:
“أخجل أن أحرج أبناء حينا.”
لقد حمل منذ نعومة أظافره ما يشبه الحياء النبوي، واختار أن يحفظ كرامة الناس، حتى لو كان ذلك على حساب حقه.
يتبع
صحيح ..رحمة الله عليه وعلى اموات المسلمين أجمعين.امين