مصطفى كمال طلبه وأسرار الاتفاقيات البيئية
مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيـذي حتى عام 1992.
عالم حصل على الدكتوراه من «إمبيريال كولدج» في جامعة لندن عام 1949، وشغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ«يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، وله المساهمة الكبرى في تحديد توجهاته. عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكّراته، التي نُشر جزء منها حول الشق المصري والسياسي في سلسلة «كتاب اليوم» لدار الأخبار المصرية. وهو خص قراء «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، ننشر بتزامن مع مجلة «البيئة والتنمية» مذكراته البيئية في حلقات.
مصطفى كمال طلبه
كانت مشاكل البيئة التي حددناها في مؤتمر استوكهولم عام 1972 تتفاقم، وكان لا بد من التركيز على قضية التعاون الدولي في حل هذه المشاكل لأنها جميعاً نتيجة النشاط الانساني، ولكن نتائج هذا النشاط عابرة للحدود وعابرة للقارات.
رأينا في «يونيب» أن نبدأ بالمشاكل الإقليمية. وبدأنا بالبحر المتوسط، باعتبار أن البحار ترتبط بها مشاكل أقل تعقيداً من مصادر المياه العذبة.
كان الكابتن كوستو، وهو بحار فرنسي وهب نفسه ليجوب البحار ويدعو الى محاربة التلوث فيها، قد جاب البحر المتوسط بسفينته الشهيرة «كاليبسو»، ثم أعلن في مؤتمر صحافي في باريس أن البحر المتوسط يموت بسبب التلوث.
اعتبرنا هذه فرصة مؤاتية لنبدأ محاولة عقد اتفاقية إقليمية بين كل الدول المطلة على البحر المتوسط، شماله وجنوبه وشرقه. كان هذا في العام 1974، وكانت كل الدول العربية الثماني التي تطل على البحر المتوسط، بما فيها مصر والأردن، في حالة حرب مع إسرائيل وترفض أن تجلس معها إلى مائدة الحوار، دع عنك المفاوضات. إضافة الى ذلك، كانت الجزائر والمغرب على خلاف مستمر بسبب الصحراء. ومن ناحية أخرى، كانت الدول العربية، أي دول جنوب وشرق البحر المتوسط، تعتبر الدول الصناعية في شماله هي المسؤولة عن التلوث ولا بد أن تقوم هي بإنقاذ البحر. أما دول شمال البحر المتوسط، الأوروبية، فكانت تعتبر أن دول الجنوب هي المسؤولة عن التلوث بسبب ما تلقيه في البحر من مخلفات بشرية غير معالجة. وفي ما بين دول شمال المتوسط نفسها، كانت اليونان وتركيا على خلاف مستمر بسبب قبرص.
استمر الحوار شهوراً طويلة ونحن نركز على مفهوم أنه لا توجد أي دولة قادرة على حماية نفسها ببناء حائط عند حدودها في البحر، وعلى هذا فإن الحل الوحيد هو تعاون دول الحوض جميعاً. واقتنعت الدول بهذا أخيراً وجلست الى مائدة المفاوضات، بما في ذلك الدول العربية وإسرائيل. انتهى الأمر الى إقرار خطة عمل لحماية البحر المتوسط عام 1974، أعقبتها اتفاقية برشلونة عام 1975 وهي اتفاقية دولية ملزمة. شاركت في ذلك كل الدول المحيطة بالبحر المتوسط، ما عدا ألبانيا التي ظلت بعيدة تماماً عن المفاوضات.
أُلحق بالاتفاقية بروتوكولان للتعاون في قضايا محددة. واشتُرط لدخول اتفاقية برشلونة حيز التنفيذ أن تصدق الدول عليها مع بروتوكول واحد على الأقل. كان الهدف إبراز الاستعداد للتعاون بصورة عامة وفي مجال واحد محدد على الأقل.
أقرت الدول كلها خطة العمل ووقعت على الاتفاقية، وأنشأنا في أثينا سكرتارية للإشراف على تنفيذ الخطة والاتفاقية والإعداد لمؤتمرات الأطراف المصدقة عليها. جاء اختيار أثينا بعد صراع شديد بين اليونان وإسبانيا على استضافة السكرتارية.
اعتُبر هذا أول نجاح لـ «يونيب» في تحقيق حماية البيئة، وهو شجع دولاً أخرى في مناطق أخرى على مطالبة «يونيب» بإجراء مفاوضات مماثلة. كانت أول هذه الدول منطقة الخليج، أعقبتها الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، ثم شرق أفريقيا وغرب أفريقيا والبحر الكاريبي وشرق المحيط الهادئ.
منظمتان للخليج والبحر الأحمر
كانت تجربة الخليج وتجربة البحر الأحمر شديدتي الصعوبة. عندما طلبت دول الخليج أن نعد معها اتفاقية لحمايته، بدأت على الفور مشكلة سياسية غير قابلة للحل: ما هو اسم الخليج؟ العرب يسمونه الخليج العربي، وإيران تسميه الخليج الفارسي وهو الاسم المسجل في الأمم المتحدة وخرائطها. رفضت الدول العربية السبع ذلك. عرضنا أن نسميه الخليج العربي ـ الفارسي أو الفارسي ـ العربي أو حتى الخليج فقط. رفض العرب وإيران جميعاً كل هذه الاقتراحات. وتعقدت الأمور ولم يتحرك أي من الطرفين عن موقفه. استمر هذا الوضع عامين. وكانت آخر محاولة أن نتفق على أن تكون الكويت هي الدولة التي تستضيف المؤتمر الوزاري الذي سيقر الاتفاقية فتسمى عندئذ «اتفاقية الكويت لحماية البيئة البحرية» من دون ذكر كلمة الخليج إطلاقاً. واقترحنا أن تبدأ المفاوضات تحت عنوان طويل: «مفاوضات لإعداد اتفاقية لحماية المنطقة البحرية التي تحيط بها إيران والعراق والسعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين وعمان».
وفعلاً بدأت المفاوضات، وانتهينا الى اتفاقية وخطة عمل وقعت في الكويت. استمرت المفاوضات أكثر من سنة، وكان يتداول رئاستها كل شهر رؤساء وفود الدول المشاركة طبقاً للترتيب الأبجدي باللغة الانكليزية. حصل ذلك أثناء الحرب الطويلة التي دارت بين العراق وإيران، وكانت إيران تأتي بعد العراق مباشرة في الترتيب، فكان الرئيس العراقي للمفاوضات يسلم الرئاسة للإيراني بكل الأدب الذي تحتمه الديبلوماسية الدولية. وهذا قدم لنا دليلاً ساطعاً على أن مشاكل البيئة يمكن فعلاً أن تجمع ولا تفرق.
رأت الدول المعنية أن تنشئ منظمة إقليمية للإشراف على تنفيذ الاتفاقية، بدلاً من سكرتارية. وأنشئت، تحت إشراف برنامج الأمم المتحدة للبيئة، منظمة سُميت «المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية» من دون ذكر الخليج. اختيرت الكويت مقراً لها، واختير وزير الصحة والبيئة الكويتي الأخ الصديق الدكتور عبد الرحمن العوضي أميناً عاماً للمنظمة، التي ما زال أميناً عاماً لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وقد تفرغ الآن لهذا العمل بعد ترك منصبه الوزاري.
انتقلنا الى البحر الأحمر وخليج عدن، وصادفتنا مشاكل أسوأ من سابقاتها. كانت إثيوبيا على خلاف مع السودان والصومال، وكانت كل الدول العربية على البحر الأحمر وخليج عدن (مصر، السودان، الصومال، جيبوتي، جزر القمر، السعودية، الأردن، اليمن) ما زالت في حالة حرب مع إسرائيل قبل عقد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.
رفضت الدول العربية تماماً أن تشترك مع إثيوبيا أو إسرائيل. وكان من غير الممكن استبعاد دولة عضو في الأمم المتحدة من أي نشاط تقوم به احدى منظماتها أو برامجها. كان الحل الوحيد أن تنتقل مظلة إعداد الاتفاقية من برنامج الأمم المتحدة للبيئة الى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية، وبالتالي أصبح المتفاوضون جميعاً دولاً عربية، وأعدت الاتفاقية ووقعت في مقر الجامعة العربية، وشهد «يونيب» التوقيع كمراقب.
وهكذا كان بارزاً تماماً أن مشاكل البيئة يسهل تحديدها من قبل العلماء والمختصين، ولكن علاجها يصطدم مباشرة بالسياسة والسياسيين. وكان علينا أن نعي ذلك تماماً وأن ندرس الأسلوب الأمثل لتخطي تلك العقبات وليس مجابهتها.
كانت التجارب أقل صعوبة في بقية البحار التي أعددنا لحمايتها اتفاقيات إقليمية. ومع ذلك صادفتنا فيها مشاكل. في غرب ووسط أفريقيا، واجهتنا مشكلة أي دولة تستضيف الأمانة العامة للاتفاقية. كانت نيجيريا والسنغال وساحل العاج تتنافس كلها على استضافة ما اعتبرته كل منها مصدر قوة. وبعد جهود طويلة تم الاتفاق على أن تتم الاستضافة بالتوالي كل سنة في بلد من الثلاثة. أما اتفاقية الكاريبي فشهدت مشاكل سياسية. الدول الأوروبية التي تحتل مناطق في البحر الكاريبي حضرت المفاوضات. وكانت دول الكاريبي نفسها تجتمع أحياناً من دون دعوة الدول الأوروبية، الأمر الذي كان يسبب لنا حرجاً شديداً. ولكن المثابرة واستعداد الجميع للالتقاء في وسط الطريق أوصلانا في النهاية الى اتفاقية ملزمة وخطة عمل.
عقدة المياه المشتركة
اتجهنا بعد ذلك الى منطقة أشد وعورة، هي مصادر المياه العذبة المشتركة بين بلدين أو أكثر. لم نبدأ بنهر النيل لسببين: الأول أنه شديد التعقيد بسبب الخلافات حول حصص المياه بين دول الحوض، والثاني أنني مصري ولم أرَ من المناسب البدء بنهر النيل كي لا يتصور أحد أنني أفعل ذلك لمجرد أنني مصري. أردنا أن نبدأ بنهر أقل تعقيداً، وكان نهر الزامبيزي في جنوب القارة الأفريقية. كانت دولة جنوب أفريقيا في ذلك الوقت تمارس التفرقة العنصرية وعلقت الأمم المتحدة عضويتها، ولم تقبل الدول الأفريقية المحيطة بالزامبيزي أن تدخل معها جنوب أفريقيا في المفاوضات. لم يجد «يونيب» صعوبة في قبول هذا، لأن عضوية جنوب أفريقيا في الأمم المتحدة كانت معلقة.
ولكن كانت هناك صعوبتان أخريان، الأولى أن بعض الدول الصغيرة الأفريقية حول النهر كانت متهمة من الآخرين بأنها قد تحول قدراً من مياه الزامبيزي الخاصة بها الى جنوب أفريقيا. والثانية أن جنوب أفريقيا كانت في حالة عداء سافر مع ممثلي الأمم المتحدة، وهي الطريق الوحيد للوصول الى دولتين من دول حوض الزامبيزي. كانوا يصرون على أن أي ممثل لمنظمة الأمم المتحدة لا يدخل الى جوهانسبورغ، وإنما يبقى طوال فترة الترانزيت في قاعة مغلقة بالمطار. وكان هذا أمراً مهيناً لي ولزملائي، تحملناه بصبر كبير لإتمام المهمة. نجحنا بعيداً تماماً عن حصص المياه أو مصادر التلوث، واتجهت الاتفاقية وخطة العمل لتنفيذها الى المشاريع التي تخدم كل دول الحوض. كانت الخطوة الأولى زيارة ثلاثة من رؤساء الدول الهامة حول النهر، وإقناعهم بأهمية العمل المشترك وبالتالي توجيه وزرائهم للسير في المفاوضات. وكانت الخطوة الثانية إشراك الدول الاسكندينافية (السويد والنروج والدنمارك) في تحمل تكاليف تنفيذ الخطة.
كان هذا أول نجاح في مجال مصادر المياه العذبة المشتركة بين أكثر من دولتين. تلتها تجربة ثانية ناجحة أيضاً في بحيرة تشاد. بدأنا بدراسة تفصيلية لما يجرى في البحيرة، وكانت قد تناقصت 25 كيلومتراً على أحد جوانبها و40 كيلومتراً على الجانب الآخر. شكك عدد من ممثلي الدول في الدراسة، وأعدناها مرة أخرى. فترت الحماسة لعقد اتفاقية. واستمر الجهد حتى وصلنا الى اتفاقية وقع عليها وزراء الدول الأربع ومعها خطة عمل.
في السنتين الأخيرتين قبل نهاية فترة عملي في الأمم المتحدة (1991 و1992) بدأنا في مشاورات حول نهر النيل. تم ذلك في البداية مع سفراء الدول المعنية في نيروبي ثم مع الفنيين من العواصم. كان التركيز هذه المرة أيضاً ليس على أنصبة المياه، وإنما على المشاريع ذات الفائدة المشتركة التي يمكن أن تقدم للاتحاد الأوروبي أو أي دولة مانحة للتمويل. كان التركيز على إعادة تشجير الغابات التي اجتثت في كينيا وتنزانيا وأوغندا وإثيوبيا، لزيادة إيرادات النيل من المياه والحفاظ على التربة في تلك البلاد التي تعريها الأمطار. وصادف هذا قبولاً لدى دول المنبع، وطبعاً لدى دول المصب.
كانت المشاورات تجري حول تحديد المناطق التي أزيلت غاباتها، وعدد الأفراد من مصر والسودان الذين سيعينون زملاءهم في كل بلد، ومشاركة كل علماء الحوض في اختيار أفضل أنواع الأشجار التي تتفق مع الظروف الطبيعية والمناخية لدول الحوض والتي تحقق عائداً مجزياً سواء كوقود أو ببيع أخشابها. لم يكن أمام شعوب تلك الدول سوى اجتثاث الأشجار، إما لاستخدامها وقوداً إذ لم يكن عندهم بترول أو غاز، وإما بيع الأخشاب ليعيشوا على ثمنها. وبدأ الحوار الجاد حول الموضوع قبل نهاية عملي مباشرة. ولكن الزميلـة التي خلفتني في قيادة «يونيب»، السيدة اليزابيث دادزويل، اتجهت بعيداً تماماً عن قضايا الاتفاقات الدولية. وبذلك مات الموضوع والتقطه البنك الدولي في مبادرته لحوض النيل التي ما زالت مستمرة حتى الآن وتلعب فيها مصر دوراً هاماً.
شخصيات في حياتي
مر بي في حياتي آلاف من البشر من مختلف الجنسيات والمستويات. أعتقد أنه يصعب على أي إنسان أن يذكر كل من قابله، خاصة اذا تعرض مثلي للعمل الدولي لفترة طويلة وزار والتقى علماء ومحامين ومسؤولين في أكثر من ثمانين دولة.
لكن هناك أسماء تركت موقعاً خاصاً في نفسي، وهناك مواقف مع أشخاص بعينهم لا تمحى من ذاكرتي. وسيتم نشرها بالتوالي شهرياً على حلقات من فترات زمنية متنوعة.
مصطفى كمال طلبه
موريس سترونغ
كان موريس سترونغ أمين عام مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الإنسانية (1972) وأول مدير تنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) الذي أنشئ في أول عام 1973. وهو اختير مرة أخرى أميناً عاماً لمؤتمر قمة الأرض عام 1992.
هذا المليونير العصامي الكندي الجنسية لم يحصل على أي قدر من التعليم بعد السنة الثالثة الابتدائية بسبب عدم قدرة والده على الإنفاق عليه. شق طريقاً وعراً الى القمة. وهو شرح كفاح حياته كلها لزوجته وأولاده في منزلي في نيروبي.
اختارني نائباً له وأصر على ذلك. وتعلمت منه في السنوات التي قضيتها معه الكثير.
كانت اختيارات موريس للعاملين معه غاية في الدقة. اختار اثنين وهو أمين عام مؤتمر استوكهولم، أحدهما مديراً لمكتبه هو الأميركي بيتر تاتشر، والآخر سكرتيراً خاصاً له هو مايكل زاميت كوتايار من مالطا. الأول قاد بنجاح مكتب «يونيب» الإقليمي في أوروبا، وهو أهم مكاتبنا، ثم أصبح ثاني نائب لي عندما انتخبت مديراً تنفيذياً لـ«يونيب». والآخر جاء مع سترونغ الى نيروبي كسكرتير خاص، ثم ترك نيروبي وتقلد عدة مناصب في منظمات مختلفة للأمم المتحدة، حتى أصبح أول سكرتير تنفيذي لاتفاقية تغير المناخ. وأعتقد أنه كان أفضل من قاد هذه الاتفاقية، لمعرفته الواسعة بقضايا البيئة والتنمية وإيمانه العميق بما يعمله.
عندما انتخب موريس سترونغ مديراً تنفيذياً لـ «يونيب» صمم على أن أكون نائبه، ليس لصداقة ولكن لأنه أراد أن يكون نائبه من العلميين لأنه لم يتعلم، وأن يكون من الدول النامية المعارضة لقضايا البيئة. ثم اختار مديرين تنفيذيين مساعدين، الأول للبرامج وهو روبرت فروش وكان نائباً لوزير البحرية الأميركية لشؤون البحث العلمي. كان فروش عالماً متميزاً في الفيزياء، وعندما اعتذر عن عدم الاستمرار ليعود الى عمله في الولايات المتحدة اختار موريس سترونغ عالماً مرموقاً آخر من كندا هو ديفيد مونرو، الذي أصبح بعد ذلك مديراً عاماً للاتحاد العالمي لحماية الطبيعة. جاء بعده عالم جليل آخر من الاتحاد السوفياتي هو سفينالد ايفتييف، الذي بقي معي طوال فترة قيادتي للبرنامج باستثناء ثلاث سنوات استبدله الاتحاد السوفياتي فيها بعالم فذ آخر هو جنادي جوليوبيف. كان كلاهما مثالاً للأدب الجم والخلق الكريم والمعرفة الواسعة وتواضع العلماء.
واختار سترونغ المدير التنفيذي المساعد الثاني لشؤون صندوق البيئة هو السويسري بول برتو، وكان قمة في الأداء والخلق. وعندما اعتذر برتو عن عدم استطاعته الاستمرار في العمل في نيروبي اختار سترونغ بدلاً منه الأميركي بروس ستدمان، وكان مديراً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في أفريقيا. كان متميزاً في كل شيء: الخبرة والإدارة والخلق العـالي وخفة الظل. اخترته نائباً لي عندما انتخبت مديراً تنفيذياً للسنة المتبقية من فترة موريس سترونغ، ثم اعتذر عن عدم الاستمرار، ليس لأنه لا يهتم بقضية البيئة ولا لخلاف معي في الرأي، ولكن لأنه وجد أن معاشه التقاعدي بعد سبعة وثلاثين عاماً في الأمم المتحدة يساوي مرتبه الذي يتقاضاه في «يونيب»، ولم يجد مبرراً للعمل بلا أجر وبعيداً عن وطنه وأهله.
وهكذا تعلمت من موريس سترونغ الدقة في الاختيار: لا صداقة ولا علاقات شخصية وإنما الشخص المناسب للموقع.
تعلمت منه كيف يقود فريق العمل في «يونيب» بكفاءة، على رغم عدم إلمامه بالقضايا العلمية التي يتناولها البرنامج. تعلمت منه كيف علّم نفسه موضوعات لم يكن يعلم عنها شيئاً، وانعكس ذلك في إصراري على أن أتعلم من العاملين معي والمفاوضين أهم ضوابط القانون الدولي وأهم الأفكار الاقتصادية.
تعلمت منه، وكنت قد مارست ذلك فعلاً في مواقعي التنفيذية في مصر، كيف يستفيد من العلاقات الشخصية الطيبة. استفاد منها هو في الحصول على الدعم المالي والمعنوي المطلوب للأولويات التي يحددها في خطة عمل «يونيب»، واستمر معي هذا الأسلوب حتى الآن.
تعلمت منه قبل كل شيء أسلوب المشاورات غير الرسمية، الذي اتبعه في أثناء مؤتمر استوكهولم للبيئة عندما تأزمت الأمور بين الشمال والجنوب. قُدت أنا أول مشاورات غير رسمية في أول اجتماع لمجلس «يونيب» التنفيذي عندما كنت نائباً له. وأصبح هذا أسلوبي الدائم في «يونيب». كنت أدعو عشرين الى خمسة وعشرين وزيراً من الشمال والجنوب لمدة ثلاثة أيام لمشاورات غير رسمية في حديقة منزلي في نيروبي، وليس في مقر المنظمة، لمناقشة ما أنوي تقديمه من موضوعات للمجلس التنفيذي للبرنامج. كان هذا يتم قبل انعقاد المجلس بنحو شهرين. كان الوزراء يناقشون ما أقدمه من دون أي التزام بمؤازرتي أثناء المجلس التنفيذي. لقد أصبح كل هؤلاء الوزراء أصدقاء شخصيين لي، ونشأت بين عدد منهم صداقات متميزة. في السنوات الأربع الأخيرة من قيادتي لـ «يونيب» أصبحت المشاورات غير الرسمية مع الوزراء عبئاً على كاهلي. فقد كان السفراء المعتمدون لدى البرنامج ينقلون إلي رغبة وزرائهم في المشاركة في المشاورات غير الرسمية. وكانت الحديقة في منزلي لا تتسع لجلوس أكثر من خمسة وعشرين شخصاً. فكنت أعتذر.
استخدمت أسلوب المشاروات غير الرسمية في كل المفاوضات التي جرت تحت إشراف «يونيب» للوصول الى اتفاقات دولية حول موضوعات إقليمية أو عالمية. وأعتقد أن هذه المشاورات كانت العامل الرئيسي في تحقيق «يونيب» النجاح الذي حققه في الوصول الى عدد ضخم من الاتفاقات الدولية.
آشوك كوشلا
رأس آشوك كوشلا إدارة البيانات في «يونيب» لسنوات وأحدث فيها قفزة رائعة. جاءني يوماً وقال: «أريد أن أخدم بلدي الهند، وسأتقدم بمشروع للحصول على بعض الدعم المالي من يونيب». كتب مذكرة المشروع. كان يسافر معي في رحلاتي وأراجع معه ما كتبه أثناء السفر حتى وصل الى الصورة المطلوبة. قدم له «يونيب» خمسة وعشرين ألف دولار. وعاد الى الهند وأنشأ شركة في منزل والده باسم «بدائل التنمية» (Development Alternatives).
ذهبت لزيارته، فوجدته يدرب الشباب على تكنولوجيا الطاقة الشمسية وهم جالسون على الأرض في منزل والده. كان أول إنتاج لهذه الشركة فرن يعمل بالطاقة الشمسية في الشارع أمام منزل والده. تأتي السيدات العاملات بما يعددن من طعام ويتركنه في الفرن حتى يعدن من أعمالهن، فيجدن الطعام قد نضج ويعدن به الى المنزل. تطورت الشركة وأصبحت من كبرى الشركات الهندية. استمر آشوك في نشاطه البيئي الى أن أصبح الآن رئيس نادي روما القديم الشهير الذي أعد الكتاب المعروف «حدود النمو»، وانتخب في الوقت نفسه رئيساً للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN) الذي سبق أن رأسه أخي المرحوم محمد القصاص. آشوك كان أذكى من عمل معي في «يونيب» من الموظفين بلا جدال. وهو مثال يحتذى لحب الوطن وخدمته. شاب في مقتبل العمر يضحي بمنصب مرموق في الأمم المتحدة ليخدم بلده، ويبدأ من الصفر ويصل الى القمة.
في مصرنا الغالية آلاف من الشباب مثل آشوك كوشلا اذا أتيحت لهم الفرصة، وسوف تتاح بإذن اللـه بعد ثورة الشعب بقيادتهم في 25 كانون الثاني (يناير) 2011.
أسامة الخولي
عرفت أسامة عندما كنت وكيلاً لوزارة التعليم العالي، حين عينه الدكتور عزت سلامة وزير التعليم العالي حينذاك مستشاراً ثقافياً في موسكو.
توثقت علاقاتنا العائلية معه ومع السيدة ناهد حرمه وابنه وكريمته، وأصبح أحد كبار المستشارين لي في «يونيب» مع الدكتور محمد القصاص. وكان لهما أكبر الفضل في تحقيق الكثير من الإنجازات التي تمت في «يونيب». لعله من أكثر زملائي كفاءة وقدرة على مراجعة تلال من البيانات والتقارير. كان شريكي، وقام بدور ضخم في إعداد تقرير حالة البيئة 1972 ـ 1992 الذي قدمه «يونيب» لمؤتمر قمة الارض عام 1992 وأصبح مرجعاً يدرس في الجامعات الأجنبية، وشاركنا في ذلك القصاص.
كان أسامة صاحب قلم رائع باللغتين العربية والانكليزية. كانت كتاباته سلاسل من الذهب. لم أرَ غرابة في ذلك، فهو ابن المرحوم أمين الخولي.
توفي فجأة في مطار روما وهو عائد الى لندن لاصطحاب حرمه الى القاهرة. فجعت عندما سمعت الخبر. انهرت عند وصول جثمانه. وعند تشييع جنازته انخرطت في بكاء حار دعا السيدة الفاضلة زوجته الى أن تطلب مني أن أترك المقابر وأعود إلى البيت لأنني لن أتحمل أكثر من ذلك. رحمة اللـه على أسامة، وجزاه اللـه خيراً عما قدمه لبلده.
عبد الرحمن العوضي
كان الدكتور عبدالرحمن العوضي وزيراً للصحة والبيئة في الكويت عندما كنت في «يونيب». رأس وفد بلاده الى المجلس التنفيذي طوال فترة عملي. شارك في مفاوضات حماية البيئة البحرية في الخليج، وعين مديراً تنفيذياً للمنظمة التي أنشأتها دول المنطقة لتطبيق البرنامج والاتفاقية اللتين تمتا تحت إشراف «يونيب»، وما زال يشغل هذا المنصب.
استمرت صداقتنا حتى الآن، قرابة أربعة عقود، أزوره في الكويت ويزورني في القاهرة. كان من أشد من ضغطوا علي لإنشاء المركز الدولي للبيئة والتنمية بعد تركي «يونيب»، وشاركني مالياً في إنشاء المركز، وما زال شريكي فيه حتى الآن.
طبيب ماهر وديبلوماسي وسياسي من أعلى طراز، وقبل كل شيء إنسان فاضل وصديق عزيز.
بياتريكس ملكة هولندا
ملكة هولندا السابقة بياتريكس من أشد المتحمسين لقضايا البيئة. كانت تحضر بنفسها الى المؤتمرات الدولية التي يعقدها «يونيب» في نيروبي لدراسة قضايا بيئية محددة. دعتني لزيارتها في قصرها في هولندا، ووجدتها وحدها في غرفة استقبال عادية. تحدثنا في مختلف قضايا البيئة، وقالت: «يا دكتور طلبه، إنك عندما تتحدث عن أي قضية من قضايا البيئة تخيفني، لأنك تتحدث من القلب وبإيمان عميق وببيانات دقيقة. لست أدري مدى تأثيرك على الآخرين، ولكن حديثك يدفعني الى الضغط على الحكومة الهولندية لعمل شيء جاد لحماية البيئة».