رحلة إلى “ذاكرة الجليد”: بعثة علمية في جبال “بامير” تكشف أسرار المناخ

محمد التفراوتي29 سبتمبر 2025آخر تحديث :
رحلة إلى “ذاكرة الجليد”: بعثة علمية في جبال “بامير” تكشف أسرار المناخ

آفاق بيئية: محمد التفراوتي

من الجليد إلى الكائنات الدقيقة والبشر: نحو فهم متعدد التخصصات لتأثيرات تغير المناخ على القطب الثالث

في قلب جبال بامير الشاهقة بطاجيكستان، على ارتفاع يفوق 5800 متر عن سطح البحر، يخوض فريق دولي من العلماء مغامرة علمية غير مسبوقة. منذ سبتمبر 2025 ولمدة خمسة أسابيع، يعمل الباحثون في ظروف قاسية لاستخراج نواة جليدية عميقة من موقع “كون تشوكورباشي”، حيث يُتوقع أن يصل عمقها إلى أكثر من 105 أمتار. هذه النواة ليست مجرد قطعة من الجليد، بل أرشيف طبيعي يحفظ بين طبقاته أسرار المناخ عبر مئات وربما آلاف السنين.

داخل الجليد، تظل فقاعات الهواء الدقيقة، وجزيئات الغبار، وآثار كيميائية وكائنات دقيقة شاهدة على تاريخ الغلاف الجوي وتقلباته. كل طبقة تشكل صفحة من كتاب الأرض، تكشف عن حرارة الفصول، نقاء الهواء، والعواصف التي مرت بالمنطقة. الهدف من هذه المهمة مزدوج. تحليل نواة للكشف عن تاريخ المناخ في آسيا الوسطى، وإرسال نواة ثانية إلى القارة القطبية الجنوبية حيث ستحفظها مؤسسة “ذاكرة الجليد” في مخزن طبيعي آمن داخل محطة “كونكورديا” الفرنسية الإيطالية، لتبقى في متناول علماء المستقبل حتى بعد ذوبان الأنهار الجليدية.

هذا المشروع هو ثمرة تعاون دولي واسع، يشارك فيه علماء من جامعة “فريبورغ” وجامعة “زيورخ” وجامعة “برن” في سويسرا، إلى جانب أكاديمية طاجيكستان للعلوم، وجامعات من اليابان والولايات المتحدة. ويمثل مثالا حيا على أن البحث العلمي لم يعد شأنا محليا، بل جهدا مشتركا يوحد بلدانا من قارات مختلفة حول هدف إنساني واحد: حفظ ذاكرة المناخ قبل أن تضيع.

مؤسسة “ذاكرة الجليد” التي تقود هذا المسعى تأسست بمبادرة من ست مؤسسات أوروبية بارزة، وتتمتع بحوكمة دولية تضم علماء من فرنسا وإيطاليا وسويسرا والصين والولايات المتحدة. رسالتها واضحة. إنقاذ الأرشيفات الجليدية المهددة بالذوبان وحمايتها للأجيال القادمة. فذوبان الأنهار الجليدية لا يعني فقط فقدان الماء والثلج، بل فقدان سجل تاريخي لا يعوض عن مناخ الأرض وتغيراته.

رحلة “بامير”، برمزيتها وأهدافها، تتجاوز حدود البحث العلمي البحت، فهي رسالة أمل وتعاون عالمي في مواجهة التغير المناخي. وفي الوقت الذي تنطلق فيه الأمم المتحدة بعقد جديد لعلوم الغلاف الجليدي، هذه البعثة  تذكرنا بأن حماية الذاكرة الطبيعية للكوكب مسؤولية نتقاسمها جميعا، وأن العلم، حين يتجاوز الحدود، يصبح أداة لحماية المستقبل.

يشار إلى أن مشروع “PAMIR” يندرج ضمن المبادرات الرائدة التي أطلقها المعهد القطبي السويسري (SPI)، حيث خصص له تمويلا قدره 1.5 مليون فرنك سويسري. ويحمل البرنامج البحثي عنوانا متكاملا. “من الجليد إلى الكائنات الدقيقة والبشر: نحو فهم متعدد التخصصات لتأثيرات تغير المناخ على القطب الثالث”.
ويشكل نهر كون “تشوكورباشي” الجليدي أحد المحاور الأساسية لهذا البرنامج، إذ سيتم فيه إنجاز حملة علمية ميدانية لأخذ عينات جليدية خلال سبتمبر 2025، تحت إشراف مجموعة أبحاث التاريخ المناخي والبيئي التابعة لمشروع “بامير”(PAMIR).

يقود اتحاد جامعة “فريبورغ” هذا البرنامج متعدد التخصصات، الذي يضم ست مجموعات بحثية من مؤسسات سويسرية مختلفة. وتندرج هذه الجهود ضمن مبادرات المعهد القطبي السويسري (SPI) الرائدة، وهي أكبر أداة تمويل يوفرها المعهد، حيث تشكل برامج متعددة السنوات توحد مشاريع العلوم والتكنولوجيا من مختلف التخصصات حول مناطق قطبية أو بيئات جبلية عالية الارتفاع.

ولا يقتصر الدعم المقدم على الجوانب العلمية فقط، بل يشمل أيضا الخدمات اللوجستية، السلامة، إدارة البيانات، التوعية، والتنسيق، ما يتيح بنية تحتية مؤقتة لإنجاز برامج أبحاث رائدة بقيادة سويسرا.
ويمثل برنامج “بامير” “PAMIR” أحد أول مشروعين استراتيجيين للمعهد للفترة 2022 – 2026، مركزا على دراسة الحالة الراهنة للغلاف الجليدي في منطقة “بامير”، وتحليل انعكاساته على النظم البيئية، الموارد المائية، والمخاطر الطبيعية، بما يعزز الفهم العالمي لمآلات التغير المناخي على ما يعرف بـالقطب الثالث.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!