آفاق بيئية: محمد التفراوتي
قال ترامب خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء 23|09|2025 : “إن ‘تغير المناخ’ هذا، في رأيي، هو أكبر عملية احتيال على الإطلاق ارتكبت على العالم. جميع هذه التوقعات التي أطلقتها الأمم المتحدة وغيرها، لأسباب واهية في كثير من الأحيان، كانت خاطئة. لقد أطلقها أشخاص أغبياء كلفوا بلدانهم ثروات طائلة، ولم يمنحوا تلك البلدان نفسها أي فرصة للنجاح. إذا لم تتخلصوا من هذه الخدعة البيئية، فإن بلدكم سيفشل”.
بينما يصف الرئيس الامريكي ترامب تغير المناخ بأنه أكبر عملية احتيال في العالم، هناك ملايين في إفريقيا يقفون كل يوم على خط المواجهة مع الجفاف والفيضانات.
لم يكن مستغربا أن يعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطاب إنكاره للتغير المناخي. لكن وقع كلماته هذه المرة أشد قسوة، وهو يصف التغير المناخي بأنه “أكبر عملية احتيال في العالم”، والبصمة الكربونية بأنها “خدعة”. بالنسبة لإفريقيا، التي تعيش كل يوم فصول هذه الأزمة، لا يبدو الإنكار سوى استفزاز لملايين البشر الذين يعانون بالفعل من آثاره. تصريحات تكشف عن إصرار على التنصل من مسؤولية تاريخية تقع على عاتق الدول الصناعية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
البصمة الكربونية: حقيقة لا خدعة
مصطلح البصمة الكربونية ليس شعارا دعائيا، بل أداة علمية لقياس كمية الغازات الدفيئة التي يطلقها الفرد أو الدولة أو المؤسسة في الغلاف الجوي. هذا المؤشر يتيح معرفة من يلوث أكثر، ومن يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن ارتفاع درجة حرارة الأرض. الأرقام واضحة. المواطن الأمريكي العادي يخلف بصمة كربونية أكبر بمرات عديدة من المواطن الإفريقي. فهل يمكن بعد ذلك وصف هذه الحقيقة العلمية بالـ”خدعة”؟
من الإنكار إلى التهرب
وصف البصمة الكربونية بالخدعة ليس بريئا. إنه محاولة لتحويل النقاش من المسؤولية إلى التشكيك، ومن العدالة إلى السخرية. ترامب يعرف أن الاعتراف بمفهوم البصمة الكربونية يعني الإقرار بأن بلاده تتحمل نصيبا ضخما من الانبعاثات، وأن عليها أن تقود جهود التخفيض والانتقال الطاقي. الإنكار هنا ليس جهلا، بل استراتيجية سياسية واقتصادية لحماية مصالح لوبيات الوقود الأحفوري والصناعات الملوثة.
دول الجنوب العالمي تدفع الثمن
المفارقة الصادمة أن من يشكك في التغير المناخي هم الأكثر استفادة من تراكم الثروات الصناعية الملوثة، بينما الضحايا الحقيقيون في الضفة الأخرى من العالم. دول الجنوب العالمي، التي لا تسهم إلا بنسبة ضئيلة في الانبعاثات، تجد نفسها في مواجهة موجات جفاف، فيضانات، أعاصير، ونزاعات على الماء والغذاء. فهل يمكن الحديث عن “خدعة” أمام مزارع فقد أرضه، أو أم تقطع عشرات الكيلومترات لتجلب ماء ملوثا؟
دول الجنوب العالمي في مواجهة الواقع المر
بالنسبة لشعوب دول الجنوب العالمي، المناخ ليس نقاشا أكاديميا. إنه حياة يومية محفوفة بالمخاطر. مزارعون يفقدون محاصيلهم بعد مواسم جفاف طويلة. نساء يقطعن مسافات مضنية للبحث عن ماء يزداد ندرته. مجتمعات تشردها فيضانات وأعاصير لم يعرفوها بهذه الحدة من قبل. أمام هذه المعاناة، يبدو خطاب ترامب وكأنه استخفاف بآلام الناس، وإنكار لحقهم في العدالة المناخية.
العدالة المناخية لا تعني الإحسان
الظلم المناخي يغذي موجات الهجرة، ويؤجج النزاعات، ويهدد السلم والأمن الدوليين. التغير المناخي ليس خدمة يقدمها الشمال الصناعي للجنوب الفقير متى شاء. إنه قضية عدالة وإنصاف.
ليس إحسان من الأغنياء إلى الفقراء. إنها التزام بالعدالة. من لوث أكثر عليه أن يخفض أكثر، وأن يدعم من لم يلوث لكنه يعاني أكثر. وأن يقدم الدعم للدول الأضعف لتتكيف وتحمي شعوبها. رفض هذه القاعدة هو رفض للعدالة ذاتها. اتفاق باريس للمناخ لم يصغ على أساس الإحسان أو الصدقة، بل على قاعدة المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة.
خطاب ترامب يعكس عقلية ترى أن العلم مجرد رأي، وأن العدالة مجرد خيار. لكن الحقيقة أقوى من الإنكار. التغير المناخي واقع، والبصمة الكربونية مقياس علمي يكشف من يساهم أكثر في الأزمة. المطلوب اليوم ليس السخرية من المصطلحات، بل مواجهة الأرقام وتحمل المسؤولية. فالمناخ لا ينتظر، والأرض لا تفاوض، ومن يتأخر اليوم سيسأل غدا أمام أجيال تدفع ثمن إنكاره.
إذا كان الإنكار سلاح السياسيين، فإن الحقيقة سلاح الشعوب والعلماء. المعركة لم تنته، وإفريقيا، ومعها كل الضحايا الصامتين، تستحقون صوتا أعلى وعدالة منصفة.