الأخلاقيات البيئية: رهان حاسم في مواجهة الطوارئ الكوكبية

محمد التفراوتي5 يونيو 2025آخر تحديث :
الأخلاقيات البيئية: رهان حاسم في مواجهة الطوارئ الكوكبية

دراسة العلوم والقيم البيئية في اليوم العلمي الخامس للبيئة
بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – آيت ملول

آفاق بيئية: محمد التفراوتي

في سياق أزمة بيئية عالمية تتسم بتزايد الاضطرابات المناخية، وتدهور النظم البيئية، وتفاقم التلوث واختفاء أنواع الكائنات، إلى جانب التوسع الصناعي والعمراني المفرط، تبرز المسألة الأخلاقية كقضية مركزية لا يمكن تجاوزها. فالمسألة لم تعد محصورة في قياس الأثر البيئي أو تقديم حلول تقنية، بل بات من الضروري إعادة التفكير في أسس علاقتنا بالكائنات الحية، وفي إعادة تعريف المسؤوليات الإنسانية أمام حالة الطوارئ الكوكبية.
وتعد الأخلاقيات البيئية، باعتبارها مجالا فكريا يتقاطع فيه الفكر الفلسفي مع العلوم البيئية والإنسانية والقانون، مدخلا حيويا لفهم التحديات القيمية العميقة التي تفرضها أزمة المناخ. فهي تستنطق قيمنا واختياراتنا وسلوكياتنا الفردية والجماعية، وتستجوب علاقتنا بالكائنات غير البشرية، كما تفضح منطق الهيمنة واللامبالاة والاستغلال الذي لا يزال يحكم أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا الإطار، نظم مختبر الأبحاث في القانون العام والعلوم السياسية (L.R.D.P.S.P)، إلى جانب فريق البحث في العلوم الإدارية والمالية وتدبير المجالات الترابية المستدامة، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ،آيت ملول -جامعة ابن زهر، فعالية علمية متميزة تمثلت في اليوم العلمي الخامس للبيئة – JSE’2025، والذي انعقد تحت شعار: “العلوم والقيم البيئية”.
وقد شكل هذا الحدث مناسبة أكاديمية هامة لطرح ومناقشة إشكاليات البيئة في ارتباطها بالعلم والقيم، من خلال مداخلات علمية رصينة، شارك فيها أساتذة وباحثون متخصصون، حيث تم التركيز على أهمية دمج الاعتبارات الأخلاقية والقيمية في الممارسات العلمية من أجل تحقيق تنمية مستدامة متوازنة.
جاء اختيار شعار “العلوم والقيم البيئية” لليوم العلمي الخامس للبيئة ( JSE’2025) ، ليعكس توجها علميا وأخلاقيا عميقا، ينبه إلى الحاجة الملحة لربط التقدم العلمي بالقيم الإنسانية والبيئية.
فالعلوم، رغم ما تتيحه من أدوات تحليل وابتكار وتطوير، تبقى غير كافية ما لم تؤطر بمبادئ أخلاقية توجه استخداماتها نحو الصالح العام وحماية الكوكب. ومن هذا المنطلق، يشكل هذا الموضوع إحدى القضايا الجوهرية التي لا تزال تحظى بتناول محدود في الأوساط الأكاديمية، خاصة في العالم العربي، حيث تندر النقاشات التي تربط بين المعرفة العلمية والوعي القيمي في معالجة التحديات البيئية.
لقد أضحى من الضروري اليوم، في ظل ما يشهده العالم من أزمات مناخية وتدهور بيئي، أن تدرج القيم مثل الاستدامة، الحذر، العدالة، والمسؤولية ضمن المنظومة المعرفية والعلمية، ليس فقط في التنظير، بل كذلك في السياسات العمومية، والتربية البيئية، وممارسات البحث العلمي.
إن هذا الربط بين “العلوم” و”القيم البيئية” لا يعد ترفا فكريا، بل هو ضرورة لضمان استمرارية الحياة على كوكب الأرض، وتحقيق تنمية منصفة ومتوازنة بين الأجيال.
وقد شكل هذا اللقاء منصة للتفكير النقدي والتفاعل العلمي المفتوح، جمعت باحثين وأساتذة جامعيين وخبراء وفاعلين جمعويين ومهنيين ومقررين سياسيين، لتدارس أهم الرهانات الأخلاقية المرتبطة بالتحول البيئي.
وقد شهد الملتقى نقاشا غنيا حول الأسس الفلسفية والثقافية والروحية للأخلاقيات البيئية، في إطار مقارن وتعددي، يراعي تنوع المرجعيات والتصورات. كما ناقش المشاركون التوترات بين العدالة الاجتماعية والعدالة المناخية، وطرحوا تساؤلات جوهرية حول الإنصاف بين الأجيال في ظل استنزاف الموارد وتسارع وتيرة التغيرات المناخية.

وتطرقت المداخلات إلى إعادة مساءلة نماذج التنمية التقليدية، واقتراح مقاربات بديلة تقوم على مبادئ الاستدامة، والاعتدال، والمسؤولية الاجتماعية. كما تم تناول مطلب الاعتراف القانوني بحقوق الطبيعة، والسعي نحو أشكال جديدة من الحوكمة البيئية تضمن مشاركة أوسع وتعزز العدالة البيئية في بعدها العالمي والمحلي.
وشكلت التربية البيئية الأخلاقية محورا أساسيا للنقاش، حيث تم التأكيد على أهميتها كوسيلة لتحول الوعي الجماعي، وتصحيح أنماط السلوك البيئي لدى الأفراد والمؤسسات على حد سواء. كما أثيرت قضايا على قدر كبير من الأهمية تتعلق بـ الأبعاد الأخلاقية للتقنيات الخضراء والابتكارات البيئية، ومدى توافقها مع مبادئ العدالة والاستدامة.
وأكد المشاركون أن الأخلاقيات البيئية لم تعد مجرد إطار نظري أو مجال فلسفي، بل أصبحت عنصرا حاسما في بناء مقاربات جديدة للتنمية، وركيزة لا غنى عنها لبناء مستقبل مستدام وعادل، يقوم على احترام الطبيعة، والتوازن بين الإنسان ومحيطه، والإنصاف بين الأجيال.
و مكن الملتقى العلمي من تلاقح الأفكار من زوايا مختلفة و خلق فضاء للتفكير النقدي، المنفتح والمتعدد التخصصات حول أهم الرهانات الأخلاقية المرتبطة بالتحول البيئي، من خلال مشاركة باحثين وأساتذة وخبراء ومهنيين وفاعلين جمعويين ومقررين سياسيين، وذلك من أجل استكشاف الأسس الفلسفية والثقافية والروحية للأخلاقيات البيئية في إطار تعددي ومقارن. و تم تسليط الضوء على التوترات بين العدالة الاجتماعية والعدالة المناخية والإنصاف بين الأجيال. وإعادة مساءلة نماذج التنمية في ضوء الاستدامة والاعتدال والمسؤولية الاجتماعية. وكذا مناقشة الاعتراف القانوني بحقوق الطبيعة وأشكال الحوكمة البيئية البديلة. فضلا عن تعزيز التربية البيئية الأخلاقية كوسيلة لتحول الوعي والسلوكيات. وتقييم الأبعاد الأخلاقية للتقنيات الخضراء والابتكارات البيئية.
وتحدث منسق اليوم العلمي الأستاذ مولاي إبراهيم كومغار أستاذ التعليم العالي في القانون العام وقانون البيئة، جامعة ابن زهر – أكادير نائب عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأيت ملول مكلف بالبحث العلمي، والمتخصص في القانون الإداري والعلوم الإدارية وقانون البيئة، عن سياق ودواعي عقد الملتقى.
وقد استهلت أشغال اليوم العلمي الخامس للبيئة بكلمة افتتاحية ألقاها الأستاذ رحيم الطور، عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – آيت ملول، حيث رحب بالحضور ونوه بالأهمية البالغة التي تكتسيها هذه التظاهرة العلمية، التي أصبحت تقليدًا سنويا يكرس انخراط المؤسسة في النقاشات البيئية الراهنة.


وأكد الأستاذ الطور على الوضع المتميز للكلية في المحافل الدولية، وتموقعها الجيد على مستوى الجامعات الوطنية والعربية، مشيرا إلى ما تحقق من منجزات ومكاسب أكاديمية وعلمية بفضل تضافر جهود جميع مكونات المؤسسة من طلبة وأساتذة وأطر إدارية، كل من موقعه ومسؤوليته.
وفي السياق ذاته، أبرز السيد العميد العلاقة المتينة بين العلوم القانونية والقضايا البيئية، مؤكدا أن حماية البيئة لم تعد تقتصر على الجانب العلمي أو البيئي فقط، بل أضحت قضية قانونية بامتياز، تستوجب إطارا تشريعيا وتنظيميا متكاملا يواكب التحولات المناخية ويؤطر السياسات العمومية لتحقيق العدالة البيئية والانتقال نحو تنمية مستدامة.
وتلت السيدة خديجة السامي كلمة شاملة تناولت فيها أهم القضايا البيئية الراهنة والتحديات التي تواجه المغرب في هذا المجال، مؤكدة على خطورة التلوث البلاستيكي الذي أصبح يهدد النظم البيئية على مستوى العالم، حيث أشارت إلى أن الإنسانية تنتج كميات هائلة من البلاستيك تتجاوز مئة مليون طن سنويا، جزء كبير منها ينتهي به المطاف في المحيطات والتربة وحتى داخل أجساد الكائنات الحية، مما يستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة هذه الأزمة.
انتقلت بعد ذلك للحديث عن ضرورة تطوير التعليم البيئي ليتجاوز مرحلة التوعية البسيطة إلى مرحلة التمكين الفعلي، حيث نادت بإدراج المفاهيم البيئية في المناهج التعليمية بمختلف مستوياتها، وتعزيز الممارسات التطبيقية كالزراعة البيئية وإعادة التدوير، مع الحفاظ على المعارف التقليدية التي توارثتها الأجيال في مجال التعامل مع البيئة.
وفي معرض حديثها عن التغيرات المناخية، حذرت السيدة خديجة من العواقب الوخيمة لاستمرار ارتفاع درجات الحرارة، مؤكدة أن التقاعس عن اتخاذ إجراءات فعالة قد يؤدي إلى تجاوز عتبة الدرجة ونصف المئوية بحلول عام 2030، مع التركيز بشكل خاص على التأثيرات السلبية التي تعاني منها جهة سوس ماسة بسبب هذه التغيرات.
كما تطرقت إلى أهمية القيم البيئية المستمدة من التراث المحلي، مستشهدة بنماذج ناجحة مثل تعاونيات الأركان النسائية التي نجحت في الجمع بين الحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية الاقتصادية، وكذلك تجربة زراعة الزعفران البيولوجي في منطقة تاليوين التي تمثل نموذجا للزراعة المستدامة التي تحافظ على خصوبة التربة وجودة المنتوج.
وأبرزت المتحدثة الجهود التي يبذلها المغرب في مجال حماية البيئة، بدءا بالانخراط في بروتوكول “ناغويا ” الدولي لحماية المعارف التقليدية، مرورا بتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، ووصولا إلى المشروع الطموح لإعادة تدوير النفايات البلاستيكية في جهة سوس ماسة الذي يستهدف معالجة سبعين ألف طن من النفايات البلاستيكية الزراعية سنويا.
وفي ختام كلمتها، وجهت السيدة خديجة السامي دعوة صريحة لجميع الحاضرين للمساهمة الفعالة في بناء مستقبل بيئي أفضل، من خلال تبني سلوكيات أكثر مسؤولية في التعامل مع البلاستيك، والابتكار في مجال إعادة التدوير، مع التأكيد على أن حماية البيئة مسؤولية جماعية تتطلب تضافر جهود جميع الأطراف لضمان إرث بيئي سليم للأجيال القادمة.

تعليم بيئي من أجل الاستدامة

وتميز اللقاء بمحاضرة افتتاحية ألقاها الأستاذ الأستاذ محمد فتوحي خبير بيئي، المنسق العام المساعد للشبكة العربية للبيئة والتنمية عن ” دور الجامعة في ترسيخ قيم التربية البيئية والتنمية المستدامة”
وأفاد الأستاذ محمد فتوحي، الأستاذ الباحث بجامعة محمد الخامس، بأن الجامعة المغربية مدعوة أكثر من أي وقت مضى للانخراط الفعّال في ترسيخ قيم المواطنة البيئية والتنمية المستدامة، في ظل التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المغرب والعالم.

تشخيص أولي للوضع

وأوضح الأستاذ فتوحي أن العالم يواجه أزمات مركبة، تتجلى في آثار التغير المناخي، التدهور البيئي، ندرة المياه، الفوارق الاجتماعية، وتراجع منظومة القيم. واعتبر أن هذه التحديات تتطلب تبني نموذج تنموي يدمج العلم والقيم والعدالة البيئية. و أشار إلى أن المغرب، رغم التقدم المحرز، لا يزال يواجه إشكاليات كبيرة، من أبرزها ارتفاع نسبة الفقر في المناطق القروية إلى 13.1% (2024). ونسبة بطالة تبلغ 13.6في المائة. و تدهور التنوع البيولوجي والغطاء النباتي. وتصل كلفة التدهور البيئي إلى 3.52 في المائة من الناتج الداخلي الخام.
مفهوم القيم البيئية والتربية المستدامة
وأكد فتوحي أن التربية البيئية تطورت منذ ستينات القرن الماضي نحو ما يُعرف اليوم بـ التربية من أجل التنمية المستدامة (EsD)، التي تعتمد على إدماج القيم والأخلاق في التكوين الجامعي، وتوسيع دائرة الوعي البيئي لدى الطلبة.
وقد صنّف القيم إلى فئات متعددة: أخلاقية، اجتماعية، دينية، معرفية، بيئية، وغيرها. وبيّن أن القيم البيئية تسعى لتحقيق التوازن بين حاجات الحاضر وضمان حقوق الأجيال القادمة، من خلال احترام الطبيعة، الاستهلاك الرشيد، والمسؤولية الجماعية.

الجامعة كفاعل للتغيير

وشدد الأستاذ فتوحي على أن الجامعة ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل هي فضاء للتربية القيمية والتنشئة على المواطنة البيئية، من خلال إدماج مفاهيم التنمية المستدامة في البرامج والمسالك الجامعية. و تشجيع البحث العلمي الموجه نحو قضايا البيئة. ودعم مبادرات “الجامعة الخضراء”، “صفر نفايات”، والاستعمال المستدام للموارد. ثم الانفتاح على المجتمع المدني وتشجيع الشراكات.

توصيات عملية

وفي ختام مداخلته، اقترح الأستاذ فتوحي مجموعة من التوصيات لتعزيز التربية البيئية داخل الجامعة المغربية، من بينها إعداد مرجع تربوي وطني يوضح مفاهيم وقيم التربية البيئية. وإدماج التربية على المواطنة البيئية في السياسات والبرامج الجامعية. ودعم المؤسسية والتحفيز المالي لمشاريع الاستدامة داخل الجامعات. وإنشاء ميثاق جامعي للقيم البيئية. وتطوير مؤشرات للتتبع والتقييم البيئي.
وأكد الأستاذ محمد فتوحي في ختام عرضه أن الجامعة تضطلع بدور أساسي في تحصين الأجيال الصاعدة بالقيم والمعرفة والمهارات الكفيلة بمواجهة رهانات التنمية المستدامة، وأن عليها أن تظل فضاءً لتشكيل المواطن الواعي، المسؤول، والمبادر، في انسجام مع تطلعات المغرب نحو اقتصاد المعرفة والمجتمع المستدام.
ملتقى القيم البيئية: بين القانون، الثقافة، والعلوم الدقيقة لتحقيق الاستدامة.

ملتقى القيم البيئية: بين القانون، والثقافة، والعلوم الدقيقة لتحقيق الاستدامة

وقد نشط الملتقى كوكبة علمية أشرفت على تنظيم الجلسات وإدارتها، مما ساهم في إثراء النقاش وإبراز التداخل بين التخصصات المختلفة من أجل تعزيز القيم البيئية والاستدامة. وشهد الملتقى عروضا غنية ومتنوعة لمحاور مهمة تناولت القيم البيئية من عدة زوايا، حيث نظمت خلاله ثلاث جلسات علمية رئيسية متعددة التخصصات، ناقشت موضوع القيم البيئية بعمق واهتمام.
توزعت هذه الجلسات بين الجلسة الأولى التي تناولت القيم البيئية من منظور القانون والشريعة والجغرافيا برئاسة الأستاذ هناكة عثمان، وشارك فيها مجموعة من الخبراء والمتخصصين، منهم الأستاذ محمد البوشواري، الذي قدم مداخلة حول حفظ البيئة بين مقاصد الشريعة الإسلامية والفلسفة التشريعية، مؤكدا على تكامل المرجعيات الروحية والقانونية في حماية البيئة. كما قدم الأستاذ عبد العزيز قابوش قراءة تحليلية وتطبيقية لأخلاقيات حماية البيئة في الشريعة الإسلامية. وسلط الأستاذ إبراهيم كومغار الضوء على دور قنوات التنشئة البيئية في ترسيخ قيم الحفاظ على البيئة. فيما تطرق الأستاذ محمد عتيك إلى العلاقة بين البيئة والجغرافيا في ضوء القيم المشتركة والممارسات الأخلاقية، عبر مقاربة تربط المجال بالمسؤولية الفردية والجماعية. وقدم الأستاذ الحسن الباز قراءة تركيبية في روافد التكامل ومناهج التشارك لتفعيل القيم في التعامل مع البيئة.
وشهدت الجلسة الثانية مداخلات متنوعة حول محور القيم البيئية في الثقافة والمجتمع برئاسة الأستاذ محمد فتوحي، خبير البيئة. قدم الأستاذ خالد العيوض قراءة بيئية من خلال شعر الروايس في منطقة سوس كنموذج ثقافي للتعبير البيئي. وتحدث الأستاذ زهير البحيري عن الرهانات الاجتماعية والتصورات البيئية في ظل مجتمع المخاطر. كما ناقش الأستاذ عبد الوهاب لعبل دور الثقافة في ترسيخ القيم البيئية أمام التحديات المستجدة. كما خصصت جلسة عامة ومحورية لموضوع شجر أركان وقيم الاستدامة، حيث تناولت منظومة شجر أركان عبر الإنسان والمجال وقيمة الاستدامة، بمشاركة الأستاذ عبد الإله أبجان، الذي تحدث عن العلاقة بين الإنسان والمجال في مجال أركان، والأستاذ ميلود أزرهون، الذي عرض تجربة الائتلاف المغربي من أجل المناخ والتنمية المستدامة في الدفاع عن المجالات الطبيعية.
وعرفت الجلسة الثالثة حول محور القيم البيئية بين الاقتصاد والعلوم الدقيقة برئاسة الأستاذة عفاف العمراني الحسني، مشاركات متميزة من بينها عرض قدمته الأستاذ هند بن وكرم حول دور التسويق في تعزيز السلوكيات البيئية المواطنة. كما ناقش فريق الباحثين من كلية العلوم التطبيقية بأيت ملول، برئاسة الأستاذة شافية حجي، العلاقة بين البيولوجيا وأخلاقيات البيئة من منظور متكامل يجمع بين الإنسان والطبيعة. وقدمَت الأستاذة فاطمة الباز عرضا علميا تناولت من خلاله موضوع الكيمياء والاقتصاد الدائري والقيم البيئية، مبرزة أهمية الابتكار في التسيير المستدام للموارد، والعلاقة المتشابكة بين العلوم الطبيعية والقيم الإنسانية، ودورهما معا في تحقيق تنمية مستدامة توازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على البيئة. استهلت الأستاذة عرضها بالتأكيد على أن العلوم تنتج المعرفة والابتكارات، في حين تمثل القيم مثل الحذر والعدالة والاستدامة أساسا أخلاقيا ضروريا لتوجيه هذه الابتكارات نحو أهداف تخدم الإنسان والبيئة على حد سواء. وشددت على أن التفاعل المتناغم بين البعدين العلمي والقيمي هو السبيل لبناء مستقبل متوازن. وأشارت في سياق تقديمها للتحديات العالمية الراهنة إلى أن العالم يتجه نحو مزيد من التحضر، حيث من المتوقع أن يعيش 70 بالمائة من السكان في المدن بحلول عام 2050، ما سيؤدي إلى زيادة الطلب على المنتجات الكيميائية بنسبة تقارب 60 بالمائة. كما نبهت إلى خطورة تزايد استهلاك الطاقة والموارد في ظل تراجع الاحتياطات وتقلب الأسعار العالمية، وهو ما يفرض إعادة التفكير في النماذج الاقتصادية الحالية.
وتناولت تحدي التغير المناخي، مشيدة باستراتيجيات المغرب الوطنية مثل خطة المناخ 2030 واستراتيجية الحياد الكربوني 2050، وأكدت على ضرورة الالتزام بالهدف العالمي للحفاظ على ارتفاع درجة الحرارة دون 1.5 درجة مئوية. ثم انتقلت إلى إبراز الدور المحوري للكيمياء في الحياة اليومية، موضحة أنها تدخل في إنتاج الغذاء والدواء والطاقة والمواد الاستهلاكية، غير أن آثارها البيئية السلبية أصبحت واضحة، حيث أشارت إلى أن الصناعات الكيميائية تسهم بنحو 20 بالمائة من الانبعاثات العالمية حسب تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) لسنة 2023.
وسلطت الأستاذة الباز الضوء على الاقتصاد الدائري كبديل للنموذج الخطي التقليدي الذي يقوم على الاستخراج والإنتاج والتخلص، موضحة أن الاقتصاد الدائري يركز على التقليل من استهلاك الموارد الأولية، وإعادة استخدام المنتجات، وإعادة تدوير النفايات، مما يسهم في تقليص الأثر البيئي وتحقيق الاستدامة. كما قدمت شرحا مفصلا لمفاهيم الكيمياء الخضراء والمستدامة، حيث تقوم الأولى على تصميم عمليات كيميائية أكثر أمانا وأقل ضررا من خلال 12 مبدأ أساسيا، في حين تنفتح الكيمياء المستدامة على الأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة، خصوصا الهدف الثاني عشر المتعلق بأنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة. ولم يخل العرض من أمثلة تطبيقية ملموسة، إذ استعرضت تحويل الكتلة الحيوية إلى مواد نافعة مثل الإيثانول وحمض اللاكتيك، فضلا عن تقنيات إعادة التدوير الكيميائي التي تسمح بتحليل البلاستيك إلى مكوناته الأصلية لإعادة استخدامه. في ختام عرضها، دعت الأستاذة فاطمة الباز إلى ضرورة تعزيز البحث العلمي في مجالات المواد الحيوية والتحفيز الأخضر، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، مع وضع حوافز تنظيمية لدعم الابتكار في مجال الكيمياء المستدامة. وأكدت في كلمتها الختامية أن الكيمياء المستدامة والاقتصاد الدائري يشكلان ركيزتين أساسيتين لتحقيق العدالة البيئية وضمان مستقبل آمن للأجيال القادمة، مشددة على أهمية تبني نموذج اقتصادي جديد يحترم كوكب الأرض ويدمج القيم الإنسانية في صميم السياسات العلمية.
في الختام، أكد الملتقى على أهمية التضافر بين مختلف التخصصات العلمية والثقافية والقانونية من أجل تعزيز القيم البيئية وتحقيق التنمية المستدامة. فالتحديات البيئية المعاصرة تتطلب رؤى متكاملة تجمع بين المعرفة العلمية والقيم الأخلاقية والاجتماعية، إلى جانب الابتكار والمسؤولية الجماعية والفردية. ويعد تبني استراتيجيات مثل الاقتصاد الدائري والكيمياء المستدامة، مع الالتزام بالخطط الوطنية والدولية لمواجهة التغير المناخي، خطوات حاسمة نحو بناء مستقبل بيئي آمن ومتوازن للأجيال القادمة. هذا الملتقى يشكل نموذجا مثاليا للتعاون البناء الذي يعزز الوعي البيئي ويحفز العمل المشترك للحفاظ على كوكبنا.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!