البنى التحتية بين الفساد والبيئة

محمد التفراوتي6 سبتمبر 2018Last Update :
البنى التحتية بين الفساد والبيئة

آفاق بيئية :البيئة والتنمية

يشهد العالم توسعات غير مسبوقة في البنى التحتية، يرتبط جزء كبير منها بتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة. ومن المتوقع إنفاق عشرات تريليونات الدولارات في الطرق السريعة والسكك الحديدية ومنشآت توليد الطاقة والموانئ والمطارات وغيرها بحلول سنة 2030.

ومع ارتفاع معدلات الفساد عالمياً، فإن كثيراً من هذه المشاريع لن تراعي متطلبات حماية البيئة، ما ينذر بأن تتحول إلى موجة تسونامي تسحق في طريقها النظم الإيكولوجية الأكثر غنى في العالم. لكن هذه الموجة تصطدم حالياً بصحوة أصحاب القرار في أكثر من مكان، ولعل ذلك في صالح الطبيعة والإنسان على حد سواء.

تراجع في تنفيذ المشاريع الكبرى

تتجه الحكومة الماليزية إلى إلغاء المزيد من مشاريع البنى التحتية التي تنفذ في إطار المبادرة الصينية المعروفة باسم “حزام واحد، طريق واحد”. وكانت حكومة مهاتير محمد أمرت خلال الأشهر الثلاثة الماضية بتعليق العمل في عدد من مشاريع خطوط النفط والغاز والسكك الحديدية التي تصل كلفتها إلى 50 بليون دولار، وتموّل من خلال القروض الصينية.

ومن المتوقع ألا تكون الخطوات الماليزية المتسارعة النكسة الأخيرة لمشاريع البنى التحتية الضخمة التي تمولها الصين. فبعد انتخاب نجم الكريكت السابق عمران خان رئيساً للوزراء في باكستان، وهو البلد الذي حصل على قروض صينية لتنفيذ ميناء ومحطات للطاقة ومشاريع أخرى تبلغ قيمتها 60 بليون دولار، ينتظر أن يتوقف جزء كبير من هذه المشاريع. ففي باكستان، كما في ماليزيا، حامت الشكوك حول استغلال المشاريع الكبرى لسرقة الأموال العامة من شبكات يتشارك فيها مسؤولون حكوميون مع القطاع الخاص.

مشروع مطار مكسيكو سيتي الجديد مهدد بالتوقف بسبب الفساد وآثاره البيئية الخطيرة.

وعلى عكس المرونة التي تبديها في دعم تنفيذ البنى التحتية لطريق الحرير الجديد، تقف الصين في موضع المواجهة مع العديد من دول جنوب شرق آسيا بشأن الجزر والشعب المرجانية في بحر الصين الجنوبي، وما يتضمنه من مناطق صيد غنية ومكامن وقود أحفوري. ويبدو أن الطموحات الصينية العابرة للقارات، وما يطالها من شبهات فساد، ساهمت في تعزيز الوعي الرسمي حول المخاطر العميقة على الاقتصاد والبيئة التي تتضمنها مشاريع البنى التحتية الضخمة.

تبلغ قيمة مبادرة “الحزام والطريق” 8 تريليونات دولار، وهي تضم نحو 7000 مشروع للبنية التحتية والصناعات الاستخراجية في 70 دولة على الأقل، تمتد من الصين إلى جنوب المحيط الهادئ مرورا بآسيا وأفريقيا وأوروبا. ويأتي القرار الماليزي خلال فترة حرجة يتباطأ فيها الاقتصاد الصيني ويغرق في الديون بشكل متزايد، بينما تواجه العديد من المشاريع التي تقودها الصين التعثر.

ولا يقتصر الأمر على الحزام والطريق، فالكثير من الخطط التي تهدف إلى تغيير وجه الأرض تصطدم بعوائق رئيسية، كما هي الحال بالنسبة إلى “ممرات التنمية” الضخمة في أفريقيا، التي تشمل عشرات المشاريع الأساسية في مجالات الطرق والسكك الحديدية والطاقة، ومبادرة تكامل البنى التحتية الإقليمية في أميركا الجنوبية.

ويُعد التوسع غير المضبوط في البنى التحتية العامل الأبرز في اضطراب النظم البيئية، لاسيما في البلدان النامية التي تشهد تخطيط أو تنفيذ نحو تسعة أعشار المشاريع الجديدة. وبفعل البصمة البشرية المتزايدة، فإن 70 في المئة من الغابات حول العالم أصبحت الآن على مسافة تقل عن كيلومتر واحد من الطرقات أو المساحات المكشوفة.

وتشير دراسة نشرتها دورية “إيلسيفير” المخصصة للحفاظ على الأنواع إلى أن نصف مناطق التنوع الحيوي المهددة في العالم باتت تحتفظ بما نسبته 3 إلى 10 في المئة فقط من موائلها الحيوية بعد أن طالتها يد البشر. وتتراجع أعداد الأنواع البرية على نحو مستمر خاصةً في المناطق المدارية، في حين تشهد رقعة الأراضي المحمية تقلصاً وانحساراً سنةً بعد سنة بسبب السكن العشوائي وقطع الأشجار والصيد غير الشرعي.

الطرق هي أكثر أنواع البنى التحتية انتشاراً، وإشادتها يعني عادةً إطلاق سلسلة من المشاكل البيئية تبدأ بتغيير استخدامات الأراضي وزيادة فرص الحرائق، ولا تنتهي بتجزئة الموائل. ويُذكر أن 95 في المئة من حوادث تدمير الغابات في حوض الأمازون كانت في نطاق 5.5 كيلومتر من محاور الطرق. وفي حوض الكونغو، ساعدت الطرق صيادي العاج على إبادة ثلثي أعداد الفيلة خلال العقد الماضي.

الفساد عامل حاسم

في مقابل التكاليف البيئية الباهظة، غالباً ما تتضمن مشاريع البنى التحتية الضخمة مخاطر أخرى لا تعد ولا تحصى، وأغلبها غير منظور. وتشكل المخاطر المخفية خللاً في عملية الاستثمار، حيث تصبح الموازنة بين المخاطر المالية وعوائد الاستثمار أمراً صعب القياس. ويعتبر الفساد من أهم المشاكل المخفية المتكررة، إذ يضع تنفيذ المشروع واستمراره بيد مجموعة من أصحاب القرار النافذين.

ويرفع المسؤولون شعار “التخفيف من حدة الفقر” في وجه المعترضين على تنفيذ مشاريع البنى التحتية الضخمة، على الرغم من أن البنك الدولي يعتبر هذه المشاريع “أداة غير حاسمة” لمساعدة الفقراء. فيما يُلاحظ أن عوائد الكثير من المشاريع الضخمة تنتهي غالباً في جيوب عدد محدود من سماسرة الطاقة ومضاربي الأراضي، ولا ينال مجمل الناس في منطقة هذه المشاريع منافع معتبرة.

وتؤدي تأثيرات الفساد، وما يرافقها من تراجع الثقة في المؤسسات العامة والخاصة، إلى جعل الكثيرين يعيدون التفكير في جدوى استثمارات البنى التحتية الضخمة، بما فيها المشاريع التي كانت واعدةً للغاية. في بابوا نيو غينيا، مثلاً، جرى الترويج لمشروع خطوط أنابيب الغاز المسال، الذي تبلغ كلفته 19 بليون دولار، على أنه منقذ لاقتصاد الأمة. لكن التقارير الأخيرة وصفت المشروع على أنه فشل تنموي بالكاد يوفر عائداً بسيطاً في فرص العمل والنمو الاقتصادي والإيرادات المالية.

وعلى الأرض، تتصاعد الاضطرابات الاجتماعية والعنف في أقاليم السكان الأصليين في محيط مشروع الأنابيب، الذي يبلغ طوله 700 كيلومتر، وتهدد بعض المجموعات بإغلاق منشآت منطقة المصب. وهكذا تحوّل مشروع الغاز المسال، بالنسبة للمستثمرين وشعب بابوا نيو غينيا، إلى عمل خاسر تنتج عنه مشاكل بيئية كبيرة، في دولة يتم إفساد مناطقها الاستوائية الواسعة من خلال قطع الأشجار والتعدين والأنشطة البشرية الأخرى.

وعلى الجانب الآخر من الكوكب، صُدم المستثمرون عندما قررت البرازيل مؤخراً إيقاف سياستها المستمرة منذ عقود في بناء سدود الطاقة المائية في حوض الأمازون. علماً أن هذه السدود تنطوي على آثار بيئية واجتماعية خطيرة، بما فيها غمر الغابات، وتشريد الناس، وقطع الأشجار لتنفيذ الطرق الجديدة ومد شبكات خطوط الكهرباء، إلى جانب المضاربة في العقارات واتساع رقعة السكن العشوائي.

وبعدما كانت حكومة الرئيس البرازيلي ميشال تامر تصم الآذان عن فضائح مشاريع الأمازون، لم يعد لها من خيار سوى التوقف عن دعم هذه المشاريع، بفضل المقاومة القوية التي أظهرتها جماعات حقوق السكان الأصليين والتعثر الذي أصاب الاقتصاد البرازيلي. وأدى الفساد، وما رافقه من توزيع عمولات غير قانونية، إلى تضخيم التكاليف وإفراغ مشاريع السدود من جدواها.

وفي المكسيك، دعا الرئيس المنتخب لوبيز أوبرادور إلى إجراء استفتاء عام حول إيقاف العمل في تنفيذ مطار مكسيكو سيتي الجديد، الذي تبلغ كلفته 13 بليون دولار. ويعتبر الرئيس القادم أن هذا المشروع مضيعة لأموال دافعي الضرائب، وهو غارق في الفساد، ويمثل كارثة بيئية كبيرة. فالمطار الجديد، الذي يجري تنفيذه منذ ثلاث سنوات، يقع فوق حوض بحيرة شبه جافة توفر المياه للعاصمة المكسيكية وتحول دون غرقها بالفيضانات، كما تستضيف أسرابا من الطيور المهاجرة، وتعد موطنا لاثني عشر نوعاً من الأنواع الحية المهددة بالانقراض.

وإذا عدنا إلى الصين، فإن معظم شركاتها لا تلتزم بالمعايير الدولية لحماية البيئة والمجتمع وضمان استدامة الديون. ووفقاً لتقديرات رسمية صينية صدرت السنة الماضية، لم تقم 58 في المئة من الشركات الصينية العاملة في مشاريع الحزام والطوق بنشر أية تقارير عن المسؤولية الاجتماعية أو الاستدامة الاقتصادية. وتسعى الشركات الصينية الكبيرة ذات الأصول الدولية إلى إقرار مبادئ توجيهية لتحجيم مسؤولياتها، في حين تدعو الشركات الصغيرة إلى تبني أضعف الضوابط الممكنة.

في السنة الماضية، أعلن علماء الأحياء عن اكتشاف نوع جديد من القردة الكبيرة في شمال سومطرة. هذا النوع الذي حمل اسم “تابانولي أورانغوتان” يضم 800 قرد فقط، وهو بذلك من أندر الأنواع الحية على وجه الأرض. وتتعرض هذه القردة إلى خطر جسيم بفعل تنفيذ مشروع للطاقة من قبل شركة حكومية صينية يتضمن بناء سد وإشادة طرق ومد خطوط كهرباء، ما سيؤدي إلى تخريب الموئل الصغير الذي تستوطنه هذه القردة ويهدد بقاءها. وعلى الرغم من احتجاجات العلماء في جميع أنحاء العالم، استمر الصينيون وشركاؤهم الإندونيسيون في تنفيذ أشغال المشروع.

ولا تقتصر مخاطر مشاريع البنى التحتية على مناطق التنفيذ بل تطال أماكن بعيدة جداً. فعلى سبيل المثال، يدخل الرمل في صناعة الخرسانة التي تعد المكون الرئيس في مجمل مشاريع البنى التحتية، بما فيها الطرق والسدود والمطارات. ويجري تجريف الرمل من المقالع والسواحل وأحواض الأنهار، لأن رمل الصحراء ذو نوعية سيئة. خلال السنوات بين 1994 و2012، ازداد إنتاج الإسمنت العالمي ثلاثة أضعاف، كما استخدم الرمل في مشاريع استصلاح الأراضي على نطاق واسع، لاسيما في دول جنوب شرق آسيا.

وقد ألحق تجريف الرمل لتنفيذ مشاريع البنى التحتية ضرراً واسعاً في النظم الإيكولوجية البعيدة عن مواقع هذه المشاريع. ففي إندونيسيا انخفضت كثافة مروج الأعشاب البحرية، وتراجعت أعداد سلاحف “تيرابين” النهرية المهددة بالانقراض في ماليزيا وبنغلادش والهند، ولحق الضرر موائل تمساح “غاريال” النادر في شمال الهند ودلافين نهر الغانج، كما أدى تجريف الرمل في نهر اليانغستي الأدنى إلى انخفاض كبير في مستوى المياه ما أدى إلى خلل في النظام الغذائي للطيور المهاجرة في الصين.

في السنوات الأخيرة، أظهر المستثمرون اهتماماً كبيراً بمشاريع البنى التحتية الضخمة، لكن البحث في التفاصيل كان يضعهم على الدوام أمام مخاطر استثمارية كبيرة. فالنزاعات حول ملكية الأراضي كانت حجر عثرة أمام تنفيذ المشاريع الكبيرة في البلدان النامية، كما تواجه مشاريع النقل والطاقة التي تمتد لآلاف الكيلومترات مقاومة اقتصادية وسياسية راسخة.

مع ضعف التخطيط الاستراتيجي لاستخدامات الأراضي، وعدم جدية تقييمات الآثار البيئية والاجتماعية، وتقلّب أسعار المواد، وتغيّر المد السياسي في الدول المضيفة، تصبح مشاريع البنى التحتية الضخمة مهددة بالفشل مالياً وبيئياً واجتماعياً. ويبقى الحل في التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، إذ لا يمكن رفع المستوى المعيشي للناس بالقضاء على الموائل والموارد الطبيعية التي تؤمن استمرار حياتهم واستدامة التنمية.

(يُنشر بالاتفاق مع “مجلة “البيئة والتنمية”)

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

Breaking News
error: Content is protected !!