التنمية المستدامة رهينة بالقرارات المحلية لا بالأجندات العالمية

محمد التفراوتي14 أغسطس 2020آخر تحديث :
التنمية المستدامة رهينة بالقرارات المحلية لا بالأجندات العالمية

آفاق بيئية : ذ محمد بادرة 

1- مفهوم التنمية المستدامة من المفاهيم العالمية الجديدة المستحدثة لمعالجة اسباب التخلف، وهو مفهوم اكاديمي ولد من رحم حلقات البحث العلمي الاكاديمي منذ اكثر من اربعة عقود والفضل يرجع في ذلك الى تقرير ورد تحت اسم ( مستقبلنا المشترك )يدافع فيه هذا التقرير الذي وضعته (الهيئة الدولية للبيئة والتنمية) على ضرورة تعزيز الاقتصاد الاجتماعي وحماية الموارد الطبيعية وضمان العدالة الاجتماعية وجميعها هي غايات متكاملة ومترابطة وليست متناقضة مع بعضها البعض.
وجاء مفهوم التنمية المستدامة شاسعا ومفتوحا على رؤية واضحة متكاملة مستنبطة من المحيط البيئي حيث ان البيئة المحلية هي التي بمقدورها ان تمد الاقتصاد بالموارد الطبيعية الاساسية كما ان الاقتصاد القوي هو الذي يتيح بدوره للمجتمع ان يستثمر في مجال حماية البيئة ويتجنب المظالم الاجتماعية مثل الفقر والفساد والظلم عن طريق ترويج حرية الفرص والمشاركة السياسية لكل فئات المجتمع.(ديفيد جي. فيكتور)
وتحولت التنمية المستدامة الى حكمة مستحكمة رائجة في المجال الحقوقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي خلال العقود الاخيرة، هذا الاستحكام والتداول اللامتناهي للمفهوم استطاع ان يخترق جدار كل النظريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كمفهوم مثير مغري وقوي غير انه خلال العشرية الاخيرة تطور هذا المفهوم وتنوعت دلالاته لدرجة السقوط في الضبابية والغموض حتى غدا مفهوما مطاطيا، متعدد المعاني والدلالات بعد ان سقط فريسة امام تأويلات منظري الاقتصاد العالمي الجديد كما استخدم من طرف لوبيات وجماعات ضغط تخدم مصالحها تحت شعارات مخادعة او انها جماعات تخدم اجندات سياسية معينة وتدافع عن مصالح شركات عالمية او صناديق استثمارية دولية او حكومية مما تسبب في افراغ هذا المفهوم من معناه الاصلي الذي اسس عليه وجرى تطبيقه في عمليات ومشاريع بعيدة عن المفهوم الحقيقي للتنمية.
2- ان ثمة تحريف وتزييف حدث لهذا المفهوم، فبعد ان كان المفهوم يشدد التركيز على الترابطات بين جميع العمليات المجتمعية الاقتصادية والسياسية والثقافية فانه تحول الى مفهوم مشوه وغامض بعد ان كان عرضة للتشويه من قبل اصحاب المصالح والمطامع في استنزاف الموارد الطبيعية الاولية .. وقد تستعمله مجموعات الضغط مرة باسم حقوق الانسان ومرة باسم حماية البيئة ومرات اخرى باسم محارية الفساد والظلم والفقر والمرض لتتسابق المنظمات باسم الدفاع عن سلامة البيئة والمناخ والشركات المختصة في انتاج الادوية واللقاحات او في انتاج المواد الكيماوية لعرض منتوجاتها في اسواق التداول التجاري الحر.. كما ترى تسابقا محموما بين شركات انتاج الطاقة البديلة الريحية والشمسية والنووية … وكلها ترفع شعار الدفاع عن فكرة سلامة الكون اوقيام تنمية خضراء مستدامة فقط لأجل خدمة مصالح لوبيات وشركات لها اهتمامات خاصة بمصالحها وسياساتها الاقتصادية ومنتجاتها(الخضراء) فأفسدت المفهوم وحولته لخدمة غاياتها ومصالحها الخاصة.
ان اصلاح المفهوم يتطلب العودة الى اصوله التأسيسية الاولى (العودة الى قواعد برونتلاند الاساسية) وذلك بالتركيز على التكامل بين المنظومات الايكولوجية والاقتصادية والسياسية والثقافية مع ترك القرار والاختيار للمؤسسات المجتمعية المحلية المنتخبة منها او الاصيلة في وضع اولوياتها ومخططاتها ومشاريعها المحلية مع متابعتها وتنفيذها، كما ينبغي على المدافعين عن التنمية المستدامة عدم الترويج لأهداف عالمية زائفة التي تصاغ بطريقة شعرية مخادعة او الترويج لأهداف فضفاضة كما حصل في القمة الدولية حول التنمية المستدامة في 2002 حين صادق المشاركون على ثمانية اهداف فضفاضة هي (اهداف التنمية الالفية).
انه لابد من اعادة تحديد مفهوم التنمية المستدامة من الاسفل اومن القاعدة الاجتماعية الصغرى – الفرد – الاسرة – الحي – المجالس المحلية – الجمعيات – ثم الى الاعلى حيث المؤسسات والسلطات الحكومية لان من شان ذلك ان يؤسس لثقافة الممارسة والمشاركة والمحاسبة مع الاستفادة من نتائج وفوائد التنمية … وهذا لا يمكنه ان يتحقق الا اذا اعيد ترميم هذا المفهوم بإحداث التالف بين الطبيعة والاقتصاد والعدالة الاجتماعية حتى ترشدنا الى طريق تحقيق اقتصاديات عادلة وقابلة للحياة في مساعدة الافراد على العيش حياة افضل واكثر صحة وعدالة وفق شروطهم وليس ان تعكس التنمية المستدامة اهدافا محدودة وفضفاضة لا تصل فوائدها الى كل افراد المجتمع ( كانقاد بعض اصناف الطيور النادرة – او الاهتمام بأصناف من الزواحف او زراعة اصناف من المنتوجات التصديرية او ما شابه…)
ان انزلاق مفهوم التنمية المستدامة عن مدلوله الاصلي ناجم بسبب تحول التنمية الى غطاء للمصالح والنفوذ السياسي والاقتصادي للدول والمنظمات ذات الصلة بالتنمية والاستثمار حيث تستغل التنمية كألية للتدخل في شؤون المجتمعات المتخلفة او السائرة في طريق النمو لتزرع فيها الكسل ( تستورد غداءها ولا تنتجه ) ثم تستحوذ على خيراتها فتحدث تقبا اسود في المدخرات والموارد الطبيعية الاولية، وهذا ما اكسب المفهوم مجموعة اتباع قوية تشكل قوة هادئة للحكومات المتقدمة المانحة للقروض باسم الاستثمار وكذا للشركات والمنظمات غير الحكومية ،وعليه يجب اعادة النظر في هذا المفهوم ليعود الى اصوله الاولى.
3- التنمية المستدامة هي اشباع الحاجات الاساسية لأفراد المجتمع وهذا هو انسب المفاهيم عن التنمية ومن اكثرها قبولا بشرط ان يمتد مفهوم الحاجات الاساسية ليشمل بجانب الغذاء والسكن والصحة والتعليم والعمل الجوانب المعنوية التي تتلخص بالحاجة لتحقيق الذات بالإنتاج والمشاركة في بناء المؤسسات وحرية التعبير والتفكير والامن والشعور بالكرامة والاعتزاز بروح المواطنة
( التنمية هي العملية المجتمعية الواعية الموجهة نحو ايجاد التحولات في البناء الاقتصادي الاجتماعي تكون قادرة على تنمية طاقة انتاجية مدعمة ذاتيا تؤدي الى تحقيق زيادة منتظمة في متوسط الدخل الفردي وفي نفس الوقت تكون موجهة نحو تنمية علاقات اجتماعية سياسية …..)
هذا هو المفهوم الاصيل للتنمية المستدامة في شموليته، اما ما دون ذلك فما هو الا مجرد عملية تنموية مستوردة تكتفي بتحقيق المعايير الخارجية للتنمية بالمعاني الاقتصادية الصرفة بدون تطوير قدراتها الذاتية المتصلة بالأمور الاجتماعية والثقافية والسياسية .
انه من الضروري التمييز بين (النمو الاقتصادي ) و(التنمية الاقتصادية ) و ( التنمية المستدامة الشاملة) لان ذلك له انعكاس على اهداف عملية التنمية واستراتيجياتها. فمفهوم النمو هو مفهوم كمي قابل للقياس وينحصر في الميدان الاقتصادي اجمالا اما مفهوم التنمية فيشمل التحولات الحاصلة في هيكل الاقتصاد والدولة ومواقع القوى الاجتماعية والسياسية، والتنمية المستدامة لها عناية بالغايات الاجتماعية واهمها اجتثاث الفقر والقضاء على البطالة وتوفير فرص عمل متكافئة للمواطنين وتحسين توزيع الدخل وتوسيع خيارات الناس وتأكيد قيم الحرية وحقوق الانسان والديموقراطية بهدف احترام كرامة الناس وكفالة امنهم وتمكينهم من المشاركة في رسم مستقبلهم وفي عملية صنع القرار في بلدهم مع توفير الوسائل والاليات الضامنة لإدارة ديموقراطية بإرساء سلطة القانون والمؤسسات المنتخبة والدستورية.
التنمية ليست اقتصادا وكفى ..
ان التناول الجدي لمسالة التنمية المستدامة يتطلب مراجعة هذا المفهوم من جديد كاطار لكل نواحي الحكم اكثر من كونها مجرد اهتمام خاص بالمجال الاقتصادي لذا فالتنمية المستدامة الحقيقية هي التي تجعل الاولوية اولا لتخفيف الفقر وثانيا لتحقيق العدالة الاجتماعية بشكل كامل ومتوازن وثالثا بإعطاء الاولوية للقرارات المحلية على الطموحات والشعارات العالمية ورابعا بتأكيد قيم الحرية وحقوق الانسان والديموقراطية وخامسا بالمحافظة على التوازن البيئي والسعي للاستخدام الرشيد للموارد وتطويرها وسادسا بالاستفادة من التكنولوجيا الجديدة لتسريع النمو المستديم .
ومن جملة اخطاء بعض النظريات الاقتصادية عن التنمية انها تنظر الى التنمية اما كمجموعة من الاهداف والمبادئ المقدسة او كأرقام وحسابات عددية للفوائد والخسائر مع اهمالها لتنمية الرأسمال البشري مما سبب للبلدان النامية سلسلة من الاخفاقات والانتكاسات في مسيرتها الانمائية…ومن جملة ذلك:
– نظرية ( مصيدة التوازن المنخفض) التي تفيد بان اقتصاديات الدول النامية تعيش حبيسة محصلة عوامل الدفع الايجابية للاستثمار والعوامل السلبية للانفجار السكاني بحيث تبقيها في مستويات منخفضة من الدخل الفردي وسوف تستمر كذلك ما لم تتخلص من هذه (المصيدة) .
– نظرية الحلقات المفرغة وتفيد بان استمرار التخلف يعود الى وجود حلقات مفرغة تتجسد في وجود مجموعة من القوى هي سبب ونتيجة للتخلف في وقت واحد .
– نظرية السببية الدائرية التراكمية التي تفسر استمرار التخلف بابتعاد النظام الاجتماعي عن التوازن .
– نظريات الاستعمار القديم التي ترى في هذا الاستعمار وما نتج عنه من تقسيم للعمل الدولي لعبت فيه الدول النامية دور(البقرة الحلوب) في خدمة الدول الرأسمالية سببا رئيسيا لنشأة ظاهرة التخلف ،وفي الاستعمار الجديد بأشكاله المختلفة سببا لاستمرارها (التبعية الاقتصادية والسياسية ).
هذه النظريات وغيرها لا ترسم لنا خطوطا للسيادة ولا تقيم اعتبارا للعدالة الاجتماعية او حماية للموارد الطبيعية بل انها تتعارض مع اعلانات ومبادئ ميثاق الامم المتحدة ومبادئ القانون الدولي في الحق السيادي للدول باستغلال مواردها الطبيعية وفقا لسياساتها البيئية والتنموية- فمنذ قمة الارض في ريو دي جانيرو في بداية التسعينيات والقمة الدولية حول التنمية المستدامة في عام 2002 ارتفع صوت المدافعين عن المسؤولية البيئية ( وخاصة الجمعيات غير الحكومية من البلدان الغنية والصناعية ) انها تؤسس للواجبات الدولية عبر تطوير شراكة تنمية عالمية ؟ ، وان التنمية المستدامة في نظرها مفهوم عالمي لدرجة ان دولة عظمى كالولايات المتحدة الامريكية صاغت مفهومها وسوقته عبر برنامجها ( مؤسسة تحدي الالفية )وهي منظمة حكومية تمتد جذورها الى وعد الرئيس الامريكي جورج بوش بتقديم مساعدات تنموية للبلدان التي تحسن استخدام الاموال المقدمة على الوجه الامثل ، او بالأحرى يخضع اقتصادها الوطني للمصالح الاجنبية …
لذا لابد من اصلاح المفهوم والعودة به الى اصوله مع التركيز على التكامل بين المنظومات الاقتصادية والسياسية والايكولوجية وترك القرار للمؤسسات والمجالس المحلية لوضع اولوياتها بعيدا عن الاهداف الفضفاضة والاعلانات المخادعة التي ترفعها بعض المنظمات العالمية باسم ( اهداف التنمية الالفية ) او ما شابه، كما ان من اهداف التنمية استيعاب مفاعيل المتغيرات الجديدة الحاصلة في العالم ولا سيما في حقول التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات واتجاهات الحياة الاقتصادية الدولية السائرة حثيثا في طريق التدويل والعولمة وبصورة متسارعة.
اذن لا بد من اعادة احياء التنمية المستدامة من جديد، مع ربطها بالقرارات المحلية لا بالأجندات العالمية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!