الزاي في أفريقيا :  حكمة الفلاحين تولد الابتكار

محمد التفراوتيمنذ 6 ساعاتآخر تحديث :
الزاي في أفريقيا :  حكمة الفلاحين تولد الابتكار

آفاق بيئية: الدكتور خالد غانم

من لا يعرف كيف يزرع , لا يعرف كيف يعيش ” مثل أفريقي قديم  من مالي , وتاريخيا عانت أفريقيا مع ظروف مناخية صعبة كالارتفاع الكبير في درجات الحرارة وموجات الجفاف المتتالية , ولم يكن أمام الشعوب الأفريقية إلا أن تتعاون مع الطبيعة ولا تتحداها , من خلال تقنيات زراعية ابتكروها مثل الزراعة علي المصاطب , وزراعي النباتات مترافقة بالحقول ( الحقول المختلطة التي بها عديد من النباتات معا  في وقت واحد ) , وانتقاء البذور المقاومة , والزراعة عبر تقنية بسيطة تعرف “زاي “.

“زاي” مصطلح يستخدمه المزارعون في شمال “بوركينا فاسو” للإشارة إلى تقنية للزراعة في  حفر زراعة صغيرة، يتراوح عرضها عادةً بين 20 و30 سم، وعمقها بين 10 و20 سم، ومسافة كل منها بين 60 و80 سم .

 في مناطق أخري بأفريقيا مثل منطقة تاهوا بالنيجر، بدلا من  زاي   تستخدم كلمة “تاسا” بلغة الهوسا , تملء الحفر بالمادة العضوية المتحللة ( روث حيواني مختلط بالبقايا النباتية من الحقل غالبا ما يطلق عليها الكمبوست ) والتي تخلط بتربة الحفرة.

وتزرع بالبذور ويمكن لتلك الحفر الصغيرة “اصطياد” مياه الأمطار , والحفاظ عليها من البخر والتسرب , ويمكنها الاحتفاظ بالرطوبة حول جذور النبات لفترات طويلة من العام وتشجع عمل مليارات من ميكروبات التربة النافعة التي تمد النبات النامي عليها بالعناصر الغذائية اللازمة له , فضلا عن الإنزيمات والهرمونات والفيتامينات المنشطة والمشجعة لعمل الجذور بطريقة طبيعيه , ومن جهة أخري تكون بيئة طبيعية وجيدة لبعض حيوانات التربة كالنمل الأبيض للقيام بوظائفه الطبيعية في تقليب التربة وإعادة تدوير العناصر بها  , وفي النهاية حصاد المحصول بأمان رغم كل الظروف الصعبة غير المواتية .

علي مدار عصور ومع انتشار الكيماويات في الزراعة بدأت تقنية ” زاي ”  تقرض حيث بدأت في  الإبتعاد  تماما عن المزارعين في بوركينا فاسو  , ومع تزايد موجات الجفاف  والتصجر هجر كثير من المزارعين قراهم إلي مناطق أخري وتزايدت حالات الفقر خاصة في السبعينيات من القرن الماضي , ولكن مزارع بوركيني فاسي إسمه “ياكوبا سوادوغو” عندما كان صغيرا سمع نقاشا بين عدد من حكماء قريته حول تلك التقنية التي ترجع جذورها إلى مزارعي القبائل المورية في بوركينا فاسو منذ قرون، والذين كانوا يحفرون حُفرًا صغيرة في التربة لحصاد مياه الأمطار ,  وسرعان ما استعاد القصة وبدأ يسأل المزارعين من كبار السن المحيطين به من أقاربه وأهل قريته عن ” زاي ” , وبمساعدتهم قام ببعض التجارب وطور الحفر بوضع كميات ومن المادة العضوية المتاحه بمنطقته , والمفاجأه  أن التقنية تنجح  مرة  تلو أخري بمزيد من التجارب .

بدأ “ياكوبا ” يزرع بانتظام بواسطة ” زاي ” وبدأ إنتاجه يزيد بما يحقق الاكتفاء الذاتي لأسرته من الدخن والذرة والقمح والخضر , وحتي أشجار الفاكهة , وسرعان ما قلده مزارعين آخرين بقريته ونجح في إنقاذ مايزيد عن 25 هكتارا كانت قد تدهورت بشكل كبير .

وبدأت الفكرة في الانتشار من قريته إلي قري أخري , وأطلق عليه الرجل الذي قهر التصحر , وفي العام 2018 تم منحة لقب “بطل الأرض” من الأمم المتحدة , وصار رمزا أفريقيا مهما في الإبتكار الزراعي .

وفي المؤتمر الدولي الزراعي السنوي  في العام 2011 والذي نظمته المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية تحدث ” ياكوبا ” عن تقنية ” زاي ” وأشار أنها تحسن من كفاءة الاستفادة من مياه الأمطار وحماية التربة فضلا عن زيادة إنتاجية المحاصيل وخاصة الغذائية  بدرجة تتجاوز الثلاثة أضعاف .

من بوركينا فاسو، انتقلت الزاي إلى 12 أفريقية أخري مثل مالي، النيجر، تشاد، والسنغال، والكاميرون و مناطق السودان وإثيوبيا … الخ .

 وتري المنظمات الدولية المهمة مثل الأغذية والزراعة (FAO) والمعهد الدولي للبيئة والتنمية (IIED) أن تقنية الزاي لا يمكن اعتبارها  فقط وسيلة للزراعة ، بل منظومة لاستعادة الحياة في الأراضي الميتة , تحسن خصوبة التربة تدريجيًا وتعمل علي تضاعف إنتاجية المحاصيل (خصوصًا الدخن والذرة الرفيعة), وتظهر التجارب أن اعتماد الزاي يمكن أن يرفع الأمن الغذائي للأسر الريفية بنسبة تتجاوز 40% في المناطق الجافة.

 كما تحد من فقد المياه بنسبة تتعدي  60% , وتعمل علي  زيادة عزل الكربون في التربة من خلال إعادة إحياء الغطاء النباتي مما يسهم في التخفيف من آثار تغير المناخ .

ياكوبا ساوادوغو (Yacouba Sawadogo) مبتكر التقنية

مع التقدم التكنولوجي وتزايد استخدام الرقمنه والذكاء الاصطناعي في الزراعة ,اليوم، أصبحت تقنية “زاي ” تدمج مع تقنيات حديثة مثل الخرائط الطبوغرافية، والطائرات المسيرة، وأجهزة قياس رطوبة التربة لتحديد أماكن الحفر المثلى.

وحتي اليوم لا يزال تطوير تقنيه ” زاي ” قائما , ففي بوركينا فاسو يجري باحثون من معهد الوطني للبحو الزراعية تجاربا حول إمكانية الزراعة المختلطة لمحاصيل الحبوب مثل الذرة الرفيعة والدخن مع البقوليات في نفس وحدة ” زاي ” للاستفادة من قدرة البقوليات علي تثبيت الأزوت الجوي وبالتالي زيادة توفر النتروجين للنبات بنسبة في حدود من 15: 25 %  .

ورغم من المزايا العظيمة لتقنية ” زاي ” الا أنه يعاب عليها احتياجها لجهد بدني كبير وأيام طويلة تصل إلي 3 أشهر لتجهيز هكتار واحد عبر عامل زراعي واحد بسبب عدم توافر الميكنة وعدم توافر المادة العضوية أو ارتفاع ثمنها , وبعض المناطق الأفريقية نجحت بدعم من الحكومة أو المنظمات المدنية في توفير بعض معدات الحفر الخفيفة , ومساعدة المزارعين علي زراعة الأشجار والمحاصيل العلفية التي المتحملة للملوحة والجفاف  , ومن جهة أخري قام مزارعون مبدعون بتطوير بعض معدات الحفر محليا , و آخرون كما بالسنغال باستبدال الحفر بالإطارات المعاد تدويرها وملئها بالمواد العضوية وتجهيزها كحصادات للأمطار ونجحوا في زراعة الخضروات الطازجة بها .

ولعل من قصص النجاح الجميلة كما فعلت الكاميرون والتي استوردت الفكرة من بوركينا فاسو في إصلاح تدهور الأراضي حول “منتزه بينويه الوطني” , والذي تم إنشاؤه في العام ١٩٣٢، وأصبح منتزهًا وطنيًا عام ١٩٦٨, وصنف كمحمية للمحيط الحيوي عام ١٩٨١ لحماية النظم البيئية المتنوعة والحياة البرية في المنطقة.

وتبنت منظمة تدعي “فودر”  تدريب المزارعين عبر تقنية ” زاي ” من خلال مزرعة خاصة أنشأتها لهذا الغرض , وحيث نجحت المنظمة في رفع انتاجية الأرض للمزارعين حوالي ثلاث مرات مع المحاصيل المهمة مثل الذرة , فبعد ماكان يحصد المزارعون 10 أكياس من الذرة للهكتار الواحد بإستخدام السماد الكيماوي والطرق المعتادة , أصبحوا يحصدون 30 كيسا بإتباع منظومة ” زاي ” , ونجحت ” فودر”  في تحويل 300 هكتار من الأراضي المحيطة بمنتزه بينوي الوطني باستخدام تقنية زاي وسماد الكومبوست خلال 3 سنوات , وللتغلب علي مشاكل ” زاي ” كأرتفاع كلفتها وزيادة الجهد البدني مما يعيق الناس علي التحول لها , نظمت ” فودر ” المزارعين في تعاونية , ووفرت معدات الحفر والحصول علي المواد العضوية .

وأخيرا إذا نظرنا إلي تقنية  ” زاي ” من خلال الأمن الغذائي للتكيف مع تغير المناخ , فتعد التقنية رمزا للابتكار المحلي القائم علي المعرفة التقليدية , وهي بديل مستدام سهل التطبيق يمكن محاكاته في العديد من بلدان العالم التي تتعرض لمشكلات الجفاف وتملح الأرض وغيرها من آثار تغير المناخ , وهي نموذجا جديدا وملهما للزراعة التجدية حيث يمكن خلالها استعادة خصوبة التربة والحياة بها .

*الدكتور خالد غانم: كاتب وأستاذ جامعي مصري. مهتم بالابتكار في التراث الزراعي لتقديم حلول فعالة في  الزراعة التجديدية والأمن الغذائي وتغير المناخ. عضو رابطة الإعلاميين العلميين العرب .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!