آفاق بيئية : عبد الهادي النجار
على أطراف الأهوار في العراق، وُجدت أقدم قصيدة أسطورية عرفتها حضارات العالم القديم. إنها ملحمة جلجامش، التي نُقشت على ألواح طينية قبل نحو 4100 سنة لتقص تجربة أبناء أرض سومر وعلاقتهم مع قوى الطبيعة. ولعل أبرز تجلياتها ما أوردته حول الطوفان العظيم الذي أغرق مدينة شروباك الواقعة على نهر الفرات، ودعوة جلجامش أحد رجالها لهدم كوخه المبني من القصب من أجل صنع قارب ينشد به النجاة، ويحمل بذرة كل ذي حياة.
في كل مكان في العالم، اقترنت المستنقعات بنشأة الحضارات وزوالها. وكما كانت مياهها تدعم سبل الحياة من غذاء وكساء وسكن، فإن فيضانها أو انحسارها كان يهدد المجتمعات المحلية بالفناء أو الترحال. ويكفي أن نعلم أن الحواضر التي تطورت على ضفاف النيل والعاصي والفرات ودجلة ارتبط وجودها بالمستنقعات التي تغذيها هذه الأنهار، وما زال تأثيرها مستمراً حتى وقتنا الراهن.
مستنقعات النيل
عندما يدخل نهر النيل حدود دولة جنوب السودان، قادماً من هضبة البحيرات الاستوائية، يصبح اسمه بحر الجبل. ثم يتراجع معدل انحدار النهر حتى يزول تقريباً، فيتفرق ماؤه في أحواض وبحيرات ضحلة لا يزيد عمقها عن ستة أمتار، وتتراوح مساحتها الموسمية بين 30 ألفاً و130 ألف كيلو متر مربع. هذا القطاع من بحر الجبل يُعرف باسم مستنقع “سُد” الذي يعد أحد أضخم الأراضي الرطبة في العالم. وتتكون المنظومة المائية لمستنقع سُد من قنوات متعرجة وبحيرات، وسدود طينية ونباتية، وحقول قصب وبردي، وهي تخسر أكثر من نصف المياه المتدفقة فيها نتيجة التبخر والنتح في السهول الفيضية الدائمة والموسمية.
وتصل حصة مصر من مياه النيل حالياً إلى 55 بليون متر مكعب. أما عجزها المائي فيصل إلى 20 بليون متر مكعب. وهذه الأرقام تبدو متواضعة أمام الإيراد المائي الإجمالي لروافد النيل وبحيراته المغذية، الذي يتجاوز 250 بليون متر مكعب من المياه سنوياً. فأين تتلاشى كل هذه المياه؟
تشكل البحيرات الطبيعية والاصطناعية الضحلة أكبر مواضع فقدان مياه النيل. فبحيرات فكتوريا وكيوغا وناصر تفقد وحدها نحو 130 بليون متر مكعب سنوياً بسبب التبخر. وتأتي المستنقعات في المرتبة الثانية، حيث يخسر النيل في مستنقعات بحر الجبل وبحر الغزال ومشار أكثر من 35 بليون متر مكعب. وفي حين تحتاج مصر حالياً إلى المياه التي تتبخر من بحيرات النيل ومستنقعاته، فلهذه الأحواض والمسطحات دور هام في تنظيم جريان النيل. فهي خزانات طبيعية تحتجز المياه الزائدة وتغذي النهر عند انخفاض منسوبه.
قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، كانت الماشية تسرح في المراعي الطبيعية المنتشرة بين مستنقعات الدلتا، في حين كانت أراضي وادي النيل تستغل كلها في الزراعة. كما كان محترفو الصيد ينصبون شباكهم للإمساك بالطيور. فإذا اجتمع الإوز صادوه وربّوه وسمّنوه. ويبدو أن المصريين القدماء لم يعرفوا الطيور المستأنسة، خاصةً في الدولة القديمة، إذ لم يكن هناك ما يحملهم على تربية الدواجن طالما كان صيد الطيور البرية يعوضهم عنها دونما عناء أو مشقة. وبخلاف الطيور المحلية، كانت مستنقعات الدلتا تأوي الطيور المهاجرة من برد شتاء أوروبا باتجاه الجنوب الدافئ.
ويعد نبات البردي أشهر أنواع النباتات التي تنمو في مستنقعات الدلتا وضفاف النيل الضحلة. وهو يستخدم في العديد من الصناعات، كما تؤكل ثماره نيئة أو مطبوخة، وتستعمل أوراقه لتصنيع البرديات.
وإلى جانب البردي، تكثر في المستنقعات أنواع النباتات المائية المختلفة، مثل الأزهار العريضة الأوراق والقصب، التي تشكل أحراجاً كثيفة تستوطنها أنواع مختلفة من الطيور والثدييات والأسماك والحشرات. ومن الزراعات، تنتشر زراعة الأرز ذات العائد المجزي في المياه الضحلة. لكن الحاجة إلى ترشيد استهلاك المياه دفعت الحكومة المصرية لتقليص مساحات زراعة الرز بمقدار 25 في المئة خلال سنتي 2017 و2018.
يعتبر نهر العاصي من الأنهار الصغيرة القليلة التدفق، وهو أقرب إلى الترعة إذا ما قورن بنهر النيل. ومع ذلك، كان للعاصي دور هام في حياة الممالك والمدن القديمة التي نشأت على ضفافه وبالقرب منه، مثل مملكة قطْنا (المشرفة) ومدينة أفاميا اللتين اندثرتا، ومدن حمص والرستن وحماة وشيزر وأنطاكيا الموغلة في القدم.
ويبدو أن حوض العاصي شهد تغيرات هيدرولوجية كبيرة مع بداية العصر الحديدي (1200 – 600 قبل الميلاد). وهذا أدى إلى حدوث انخفاض في المخزون المائي، وتراجع منسوب البحيرات والمستنقعات القريبة من مملكة قطنا ما تسبب بهجرة السكان.
وفي المقابل كان لهذه التغيرات أثر إيجابي في المناطق المجاورة. فإلى الجنوب الغربي من مملكة قطنا بنحو 20 كيلومترا، كانت أراضي مدينة حمص المعاصرة لاتزال مغمورة بمياه المستنقعات باستثناء بعض التلال. ومع انحسار المياه، بدأت حمص القديمة بالتشكّل تدريجياً. وفي نهاية القرن الثالث الميلادي، خلال عهد الإمبراطور الروماني ديوكلتيانوس، جرى بناء سد على بحيرة حمص كان له دور هام في نهضة المدينة نتيجة زوال مستنقعاتها وزيادة غلالها. وكان هذا أضخم المشاريع التخزينية التي أنجزت في العصر الروماني. ولم يشهد نهر العاصي مشروعاً بهذه الضخامة حتى منتصف القرن العشرين، عندما جرى تجفيف مستنقعات الغاب. وكانت هذه المستنقعات تتجمّع في وسط سورية بين محافظات حلب وحماة واللاذقية، وتتغذى من الأمطار ومياه نهر العاصي وينابيع المنطقة الغزيرة.
وشمل مشروع استصلاح الغاب سهول منطقة طار العلا ووادي الغاب، بما يحتويه من مستنقعات يصل طولها الأقصى إلى 70 كيلومتراً وعرضها إلى 15 كيلومترا، بمساحة مغمورة قدرها 35 ألف هكتار من أصل 141 ألف هكتار هي كامل مساحة المشروع. وفي سنة 1956 جرى استكمال كسر العتبة البازلتية في القسم الأسفل من الغاب، وتم تصريف المياه تماماً. فتحول مستنقع الغاب إلى سهل خصب جرى توزيع أراضيه على الفلاحين.
على الرغم من النتائج الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة لتجفيف مستنقعات الغاب، إلا أنه أدى إلى انخفاض كبير في الرطوبة النسبية في وسط البلاد نتيجة انخفاض معدل التبخر، ما جعل مناخ المنطقة شبه جاف صيفاً. كما أدّى التجفيف إلى تراجع تغذية الطبقة العليا من المياه الجوفية الصالحة للزراعة والشرب، التي تمتد على عمق 50 إلى 70 متراً من سطح الأرض، وتقع تحتها طبقة المياه الجوفية الغنية بالمياه الكبريتية. وامتد هذا التأثير على مساحة تصل إلى 100 كيلومتر شرقاً وأكثر من 125 كيلومتراً جنوباً وشمالاً. وهذا يعني أن أضرار الجفاف من نقص المياه الجوفية وانخفاض الرطوبة الجوية يعادل ثلاثة أضعاف مساحة سهل الغاب وطار العلا، أي نحو 425 ألف هكتار.
في دراسة علمية نُشرت عام 2012، بيّن باحثون من جامعة تشرين والهيئة العامة للبحوث الزراعية أن العجز المائي الحالي في الموازنة المائيـة لسهل الغاب يبلغ 137 مليون متر مكعب في السنة. وهـو ناتج عن خفض تدفق نهـر العاصي إلى النصف نتيجة بناء السدود عليه، إلى جانب تغيير الخواص المائية والبيئيـة لحوض العاصي بفعل تجفيف مستنقع الغاب ومشاريع الري التي تبعته، وانخفاض كفاءة شبكات الري إلى 40 في المئة بسبب قدمها، وازدياد الطلب على المياه لأغراض الزراعة والصناعة، وازدياد حفر الآبار الارتوازية، ما أدى إلى انخفاض غزارة تدفق الينابيع وجفاف بعضها.
معظم سهل الغاب كان عبارة عن بحيرات ومستنقعات يجف بعضها في فصل الصيف، فيستغلها سكان المنطقة للزراعات الصيفية كالذرة البيضاء والقطن. لكن هذه المنظومة البيئية البشرية زالت تماماً نتيجة تجفيف مستنقعات الغاب. ومع ذلك، ما زالت بعض المناطق القريبة من حوض العاصي تحتفظ بمستنقعاتها على الرغم من ضآلة مساحتها أمام مستنقعات العاصي التاريخية، ومنها على سبيل المثال مستنقع عمّيق في منطقة البقاع الغربي.
وتعد محمية عمّيق من أكبر الأراضي الرطبة المتبقية في لبنان، وهي محطة هامة للطيور المهاجرة من أوراسيا باتجاه أفريقيا. ومستنقع عمّيق جنة للطيور ومقصد لهواة مراقبتها، حيث تم تسجيل أكثر من 250 نوعاً منها في أرجائه. لكنه أيضاً زاخر بالفراش (53 نوعاً) والزواحف (12 نوعاً) والثدييات (23 نوعاً). وعلى الرغم من وجود خمسة أنواع فقط من البرمائيات، فان كثرة أعدادها تعوض بعض النقص. وثمة أوقات يصعب فيها السير دون أن يطأ زائر المستنقع عدداً من الضفادع.
مستنقعات الرافدين
يعتبر نهرا دجلة والفرات المصدر الرئيسي لمياه الأهوار، إذ أن مناخ المنطقة صحراوي جاف قليل الأمطار، ويساهم نهر الكرخة الآتي من إيران في تغذية الأهوار بالمياه. وتمتاز الأهوار بغطاء نباتي كثيف أغلبه من القصب والبردي والعديد من النباتات الطافية والغاطسة. وهي تستضيف العديد من الحيوانات المائية كالأسماك، والطيور المحلية والمهاجرة مثل البط والإوز ومالك الحزين والهدهد والحذاف والحسّون والحُر.
وتطلق تسمية “الأهوار” على الأراضي المنخفضة التي تغمرها المياه في جميع أيام السنة، وفي مواسم معينة تضم مناطق ضحلة وأخرى عميقة نسبياً. وما يميز الأهوار عن غيرها من المستنقعات نظامها البيئي والهيدرولوجي الفريد والمستمر عبر التاريخ، إذ كانت موئلاً نابضاً بالحياة، ومقراً لسكنى البشر منذ آلاف السنين. وقد استثمرت أرضها في زراعات متطلبة للماء مثل أرزّ العنبر العراقي الشهير، إلى جانب زراعة الذرة البيضاء وقصب السكر. كما تربى في الأهوار أنواع المواشي المختلفة، لا سيما الجواميس.
وتختلف مساحة الأهوار بحسب نظرة الباحثين إليها. فبعضهم يحصرها بالأراضي التي تغمرها المياه بشكل شبه دائم فتكون مساحتها 7000 كيلومتر مربع، ومنهم من يجعلها أوسع من ذلك لتشمل الأراضي المجاورة، فتصبح مساحتها 35000 كيلومتر مربع. وكانت اليونسكو أدرجت أهوار العراق على قائمة التراث العالمي في سنة 2016.
كانت الأهوار وسكانها عرضةً للمخاطر المختلفة على الدوام. فليس ببعيد عن أسطورة الطوفان العظيم، واجهت الأهوار سلسلة لا نهائية من الفيضانات الأصغر حجماً، وأظهر سكانها بأساً في مجابهتها، كما فعلوا في مقارعة الأوبئة التي تنقلها الحشرات. وفي محيط الأهوار دارت العديد من المعارك، وكانت تاريخياً ملجأً للمطارَدين، ما جرّ عليها الكثير من الويلات. ومن ذلك، ما فعله هولاكو ثم تيمورلنك من تدمير متعمد لشبكة السدود التي بناها هارون الرشيد لاستصلاح أراضي الأهوار، والحملات العسكرية المتتالية التي كانت ترسلها الدولة العثمانية إلى المنطقة لمعاقبة “المشاغبين العرب”.
بعد عام 1991، ونتيجة لقرارات سياسية، وضعت خطة لتجفيف الأهوار جرى تنفيذها خلال بضع سنوات. ونتج عن ذلك القضاء على واحد من أكبر المجمعات المائية العذبة في العالم بمساحة تبلغ 20000 كيلومتر مربع، وانقراض مجموعة من الحيوانات المتوطنة في الأهوار، بالإضافة إلى التغيرات الكبيرة التي لحقت بالمناخ وانخفاض نسبة التبخر والرطوبة الجوية، وارتفاع نسبة العواصف الترابية، وتراجع أعداد المواشي.
وبعد إعادة المياه إلى مجاريها بعد سنة 2003، واتجاه الأهوار إلى التعافي بفضل مشاريع إعادة التأهيل، تواجه المنطقة حالياً مشكلة الجفاف، بفعل تراجع تدفق الأنهار نتيجة سياسات دول المنبع في بناء السدود واحتجاز المياه. ولئن دفع تراجع تدفق مياه النيل الحكومة المصرية لتقييد زراعة الأرزّ في سنة 2018، فإن قلة الإيرادات المائية في نهري الفرات ودجلة جعلت الحكومة العراقية في السنة ذاتها تمنع تماماً زراعة ثمانية محاصيل، وفي طليعتها الأرزّ والذرة.
لقد ساهمت المستنقعات في العالم العربي بتوفير الظروف الملائمة لنشأة الحضارات وتطورها، وكانت مصدراً غنياً للغذاء والكساء وموئلاً لأشكال الحياة المختلفة. وعلى مر التاريخ، كانت المستنقعات قادرة على الصمود أمام أعتى المخاطر باستثناء التعديات الواسعة التي يقوم بها الإنسان. فهل تملك المستنقعات المتبقية المناعة الكافية لمواجهة مشاكل الجفاف وتغير المناخ؟