آفاق بيئية : عبدالهادي النجّار – البيئة والتنمية
يصف تعبير “المصدر المفتوح” مجموعة المبادئ التي تكفل الوصول إلى تصميم وإنتاج البضائع والمعرفة بمعزل عن قيود الملكية الفكرية، وهذا ما يتيح للمطورين والمستثمرين تعديل التصاميم أو إضافة ميزات جديدة بحرية كاملة.
وبعيداً عن الرقميات، حيث حققت البرمجيات المفتوحة المصدر شهرة واسعة من خلال نظام التشغيل “أندرويد”، ظل هذا المصطلح محدود الانتشار على أرض الواقع لأسباب عدة من بينها أن تطبيق التقنيات المفتوحة المصدر خارج العالم الافتراضي يرتبط بتوافر مقوّمات ماديّة لا تكون عادة في متناول الجميع، وأحياناً يتطلب الأمر إجراء دراسات الجدوى والحصول على الرخص الحكومية.
في سنة 2011، جرى إطلاق مبادرة “ويكي هاوس” من أجل تبسيط إنشاء المنازل الخشبية المستدامة التي لا تستهلك الكثير من الموارد. وتقوم هذه المبادرة على نشر تصاميم متاحة مجاناً عبر الإنترنت [wikihouse.cc] يمكن تنزيلها وتعديلها ثم استخدامها لقطع الألواح الخشبية إلى أجزاء يجري تجميعها، بشكل يشبه أحجية الصور، لبناء منزل خشبي.
مبادرة ويكي هاوس لم تتجاوز حتى الآن مرحلة التجارب، وخططها لإنشاء مجمعات من المنازل المفتوحة المصدر في الدول النامية ظلّت حبراً على الورق. ويعزى هذا إلى أن آلات النجارة التي يجري تشغيلها باستخدام الحاسب نادرة الوجود في الدول النامية، ومن ناحية أخرى فإن الشائعات والأخبار الزائفة التي راجت في سنة 2012 حول قيام الشركة السويدية أيكيا بإطلاق منتج مشابه جعل فرص ويكي هاوس بالانتشار معدومة.
لا يمكن وصف تجربة ويكي هاوس بالفشل التام، إذ أن عملاقة صناعة الأثاث في العالم، شركة أيكيا، وجدت في الأفكار حول المنازل القابلة للتجميع ما يستحق المغامرة المحسوبة. وبعد سنوات من التجارب غير الربحية مع مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، ابتكرت أيكيا منزلاً لإيواء الأسر النازحة من مناطق الصراعات، تبلغ مساحته 17.5 متراً مربعاً، ويمكن تفكيكه وتركيبه في أربع ساعات فقط من دون استخدام البراغي والمسامير. منزل “بيتر شيلتر”، الذي تصنعه أيكيا باستخدام الهياكل المعدنية وألواح البولي بروبلين العازلة والمزود بلوح شمسي لتوليد الكهرباء، بدأ إنتاجه في سنة 2015 وتبلغ كلفته 1250 دولاراً، وهو يوفر المأوى حالياً لعشرات آلاف الأسر اللاجئة.
في المقابل، هناك عدد من التقنيات المفتوحة المصدر حققت انتشاراً عالمياً واسعاً، خاصةً تلك الممارسات التقليدية التي عرفت تراكماً في الخبرات على فترة طويلة من الزمن.
ستيف أوينغز، الناشط الأوسترالي في مواجهة تغير المناخ، قام بإنشاء موقع إلكتروني يختص بتعليم بناء وتشغيل وحدات الهضم اللاهوائي لمخلفات الحيوانات في المزارع والمنازل الريفية، أو ما تعرف بالمخمِّرات. ويتضمن الموقع [build-a-biogas-plant.com] دراسات وتصاميم هندسية لأنواع المخمّرات التي ثبتت جدواها، ومقاطع فيديو وكتيبات تعليمية لإنتاج الغاز من الكتلة الحيوية موجهة للكبار والصغار، بالإضافة إلى عرض لآخر التطورات في هذا المجال.
حضارات بلاد ما بين النهرين والصين القديمة كانت عرفت الإفادة من الغاز الحيوي الناتج عن تحلل المواد العضوية منذ آلاف السنين. إلا أن المحاولات الحقيقية لوضع تصاميم هندسية تستغل الكتلة الحيوية بشكل مجدٍ تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، وذلك مع تشييد الهاضمات اللاهوائية في نيوزيلاندا والهند. ونتيجة لأزمتي النفط في سبعينيات القرن الماضي، شهدت الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ثورة في الاعتماد على المخمِّرات الريفية للحصول على الطاقة. وبفضل الدعم الحكومي، يوجد الآن نحو ثلاثين مليون وحدة تخمير ريفية في الصين وخمسة ملايين وحدة في الهند.
تعطي المخمّرات طاقة نظيفة رخيصة الكلفة وسماداً عضوياً غنياً بالعناصر المغذية، والعديد من المركبات المنشطة للنمو النباتي وإحياء التربة. وهذا السماد خال من المسببات المرضية والآفات الحشرية وبذور الأعشاب الضارة. ويعد الهضم اللاهوائي من الطرق البيئية المجدية اقتصادياً، وهو بديل لحرق المخلفات العضوية، أو طمرها مباشرة من دون معالجة، كما أنه يقلل من انبعاث غازات الدفيئة.
يقوم تصميم المخمّرات على بناء حيّز للهضم اللاهوائي بحجم 2 إلى 10 أمتار مكعبة تحت الأرض، ويتصل به حوضان فوق سطح الأرض، الأول يشكل مدخلاً للمادة العضوية التي يجري خلطها مع الماء، والثاني يؤلف مخرجاً للسماد العضوي المتخلف عن عملية التخمير. توفر الحرارة والرطوبة الكافية في جسم المخمّر الظروف المناسبة لتحلل المخلفات العضوية بيولوجياً، مما يؤدي إلى إطلاق غاز الميثان الذي يتجمع في أعلى المخمّر، ويتم تمريره عبر أنبوب للإفادة منه كطاقة نظيفة في مواقد الطبخ والاستخدامات الأخرى.
برنامج “سويتش ميد”، الذي يموّله الاتحاد الأوروبي وينفّذه بالتعاون مع عدد من مؤسسات الأمم المتحدة الإقليمية، تنبّه إلى أهمية الربط بين أصحاب المصلحة لتوسيع نطاق الابتكارات الاجتماعية والإيكولوجية في منطقة البحر المتوسط. وهو يقدم التدريب لأصحاب المشاريع الخضراء والشركات الناشئة، ويعمل مع صانعي السياسات من أجل وضع إطار تنظيمي وسياسي لدعم سوق المنتجات والخدمات المستدامة. يضم مجتمع “ذا سويتشرز” [theswitchers.eu] التابع للبرنامج مجموعة من روّاد الأعمال وصانعي التغيير الأخضر، الذين يطرحون عبر الموقع الالكتروني تجارب ناجحة وحلولاً يمكن نقلها وتطبيقها. ومن هذه حل مبتكر ومصدر مفتوح لإحدى أهم المشاكل العالمية، مياه الشرب النظيفة.
وفقاً لتقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية في شهر تموز (يوليو) 2017، يفتقد أكثر من بليوني شخص مياه الشرب الآمنة في المنزل، منهم 844 مليوناً لا يمتلكون خدمات مياه الشرب الأساسية. وهذا ما يجبر 263 مليون شخص على القيام برحلة تزيد مدتها عن 30 دقيقة من أجل الحصول على مياه شرب مصدرها الجداول والبحيرات غالباً. وفيما تعد تحلية مياه البحر هي الخيار الوحيد المتاح لعدد من البلدان العطشى، فإن التقنية المستخدمة حالياً تستهلك مقداراً هائلاً من الطاقة، الأمر الذي يجعلها وقفاً على الدول الغنية.
استجابةً لهذا التحدّي، ابتكر المصمم الإيطالي الشاب غابرييل ديامانتي، جهازاً منزلياً بسيطاً لتنقية المياه بالاعتماد على حرارة الشمس فقط. وتقوم فكرة جهاز “إليودومستيكو” على عدة اعتبارات أهمها البساطة في الاستخدام واتباع النماذج التقليدية في التصميم واعتماد المواد المحلية في التصنيع، ما يجعل فرص تطوير المنتج وانتشاره كبيرة جداً.
يتكون جهاز إليودومستيكو من هيكل طيني مزوّد بحوضين مصنَّعين من الطين أيضاً، مع أغطية ووصلات معدنية. يُملأ الحوض من الأعلى بالمياه المالحة، وبفضل حرارة الشمس التي تعمل على رفع الحرارة وزيادة الضغط يتبخر الماء، ثم يندفع نحو الحوض الأدنى حيث يتكاثف على الغطاء المعدني ويقطر مياهاً نقيةً. يمكن لهذا الجهاز أن ينتج ما يصل إلى 5 لترات من مياه الشرب يومياً بتقنية بسيطة لا تستخدم الكهرباء أو الفلاتر، ولا تتطلب أي شكل من أشكال الصيانة.
هذا الجهاز لاقى الكثير من التقدير في المسابقات العالمية نتيجة تصميمه العملي وأثره الاجتماعي، وهو متاح للتوزيع كنموذج مفتوح المصدر عبر الموقع الإلكتروني لمصممه غابرييل ديامانتي [gabrielediamanti.com]، ولذلك يستطيع الحرفيون تكييف التصميم ليتلاءم مع الاحتياجات والموارد المحلية، من أجل تقليل تكاليف التصنيع والنقل ودعم نمو الاقتصاد المحلي.
إن التقنيات المفتوحة المصدر أثبتت مكانتها في العالم الرقمي، وهي قادرة على النجاح أيضاً في العالم المادي، إذا ما توفر الدعم المناسب لها. وفي الحالات التي أوردناها كانت هذه التقنيات وسيلة لتحقيق عدد كبير من أهداف التنمية المستدامة، التي اعتمدتها الأمم المتحدة ضمن جدول أعمال 2030، كضمان الصحة الجيدة، وتوفير المياه النظيفة، وتأمين الطاقة المتجددة، إلى جانب تعزيز النمو الاقتصادي، والاستخدام المسؤول للموارد، ومواجهة تغير المناخ، وهي جميعها أهداف تسعى البلدان العربية إلى تحقيقها. المطلوب استكشاف هذه التقنيات الزهيدة نسبياً، والاستثمار بها من أجل الإيفاء بالتزاماتها الوطنية في تحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز سلامة البيئة والصحة العامة.
(يُنشر بالاتفاق مع مجلة “البيئة والتنمية”)