د. أحمد زكى أبو كنيز *
حلوى شعبية مفعمة بعبق الماضى يتم انتاجها محليا فى الصعيد الاعلى من بلاد مصر الحروسة منذ عدة مئات من السنين وطالما استمتع بها الاطفال و الصبية بل و الكبار على تنوع طبقاتهم و اختلافها ويوما ما فى ذلك الزمن البعيد كانت حلوى الجلاب بمثابة الهدية القيمة التى تتبادلها فئات المصريين فى منسباتهم الاجتماعية المختلفة ولعل فنانيهم فى تلك العصور من ماضى مصر الجميل تغنوا بها و لها. و لطالما رفع الباعئعون عقيرتهم بالغناء لها جلبا للزبائن و اغراءا لهم بشراءها و تناولها. وفى قريتى كانوا احيانا يطلقون عليها الخلع ولعل الاسم جاء من كونها هدية سلطانية يهبها السلطان او الوالى الى من يبغى اكرامهم فيخلع عليهم تلك الحلوى العجيبة.
و تتركز صناعتها فى مركزى فرشوط و نجع حمادى بمحافظة قنا حيث تجود زراعة قصب السكر الذى يمثل المادة الخام لصناعة الجلاب وهذه الصناعة يتوارثها الابناء عن الاباء كابرا عن كابر و احيانا يتوارثها التلاميذة (الصبيان) عن اساتذتهم (المعلمين), لكن بقى سرها مكتوما لايبوحون به لأحد وبالتالى لم يلق الضوء عليها ابدا ولم تأخذ حظها من الزيوع و الانتشار الا انها تعانى الان من الذبول و الاندثار الامر الذى يشى بقرب زوالها من الوجود لتكون اثرا بعد عين مثل الصناعات الكثيرة و اليدوية التى كانت فى مصر ثم اختفت.
فمراكز الصناعة بمحافظة قنا و ماحولها مثل محافظات اسوان و الاقفصر وسوهاج, تكاد تكون هى المنطقة الوحيدة التى تنتشر بها تجارة هذا النوع من الحلوى اللهم الا فى بعض مناطق محدودة بالقاهرة . هذا عن الانتشار المكانى اما الانتشار الزمانى فهى تظهر قبيل بداية موسم حصاد قصب السكر بحوالى شهر او اقل قليلا لتختفى قبل انتهاءه بشهر او اكثر قليلا .أى أن موسم انتاجها غالبا ما يكون من شهر ديسمبر وحتى منتصف ابريل من كل عام.
و هذه الصناعة لم تنل حظها من التطوير و التحديث او الدعاية و الاعلان لذلك ظلت مخبوءة فى الجزء المظلم من عالم الحلوى الشرقية او الشعبية, فطريقة صناعتها هى.. هى التى وجدت منذ البداية نفس الادوات و ذات المعدات البدائية البسيطة و كذلك نفس طريقة التعبئة و حتى بائعوها لايبيعون شىء سواها فكأنما كتب عليها الوحدة و التوحدة.
و الان ارى ان هذه الصناعة فى مرحلة الانزواء و بالتالى فهى تواجه خطر الزوال و الاندثار لان عدد مرتادوها او ممتهنوها يتضائل شيئا فشيئا مع مرور الزمن, كما ينظر اليها على انها من الصناعات القديمة او الرديئة التى لاتعطى لممتهنها او صاحبها ميزة نسبية فى الهيئة الاجتماعية وبالتالى يهجرها المعلمون والاسطوات حتى الصبية يتركونها و يبحثون عن شىء آخر فالجميع يراها موضة قديمة, فبائعوها اما تجدهم فى قطار الصعيد بين محطتى نجع حمادى و قنا وهم يحملونها فى مقاطف و عند شراءك لها تجده يضعها فى كيس متواضع صنع من اوراق كتب و كراسات تلاميذ المدارس القديمة المختلفة الاوان و الاشكال و الاحجام و بالتالى لا سمه مميزة لها. اما بائعوها فى المدن فتراهم يعرضونها على عربات يد صغير و قد رصوها بطريقة بدائية و مكشوفة فتكون معرضة لهجوم الحشرات عليها و سقوط الاتربة على اسطحها و لمس الايادى غير النظيفة لها مما ينفر منها الكثير من الناس فينظر اليها على انها حلوى مكشوفة.
لكن قيمتها الغذائية عالية جدا فهى مصدر ممتاز للكربوهيدرات و محتواها عال من الاملاح المعدنية الهامة مثل الحديد و الكالسيوم و الماغنسيوم والبوتاسيوم غيرها وبالتالى فبالرغم من رخص ثمنها الا انها تمثل مصدر رائع وغنى لكثير من المغذيات و العناصر الهامة, و لن نقول عنها انها ملوثة لان طبيعة المواد السكرية تكون حافظة ومانعة اذا ما ذاد تركيزها عن 69% فما بالك وهى مادة جافة فهى بالتأكيد آمنة , بالاضافة الى طعمها الجميل و هشاشتها و سهولة بلعها وهضمها و سرعة امتصاصها و ما تضيفة للجسم من مغذيات سريعة, فوق ذلك اسعارها فى متناول الجميع فهى زهيدة الثمن بالمقارنة بحلويات اخرى كثيرة منتشرة فى السوق المصرى.
و الان ما العمل للحفاظ عليها من الزوال؟ سؤال هام يجب ان يوجه الى علماء و باحثوا معهدى بحوث المحاصيل السكرية و معهد تكنولوجيا الاغذية التابعين لمركز البحوث الزراعية ايضا اقسام التصنيع الغذائى بكليات الزراعة بالجامعات المصرية. فهذه الجهات عليها تطوير هذه الصناعة التى اراها تمثل رمزا ثقافيا وحضاريا للشعب المصرى. و حلوى رخيصة الثمن هامة للتغذية. و نمطا من انماط المشروعات الصغيرة التى تصلح للشباب الراغب فى غشيان مجال المشروعات الصغرى و العمل الخاص. و من جانبى فقد قمت بزيارة مواقع هذه الصناعة و سأضع فى الفترة القادمة توصيفا دقيقا لها و خطوات الصناعة فى وضعها الراهن التقليدى, و سوف أضع تصورا لما يمكن ان يكون تطويرا لهذه الصناعة لوضعها فى القالب العصرى. و ادعو كل المهتمين بالعمل معى فى سبيل هذه الغاية.
كما اننى سوف ارسل دراسة للصندوق الاجتماعى للتنمية شارحا لهم امكانية ادراجها ضمن المشروعات الصغيرة التى يمولها الصندوق للشباب فى مناطق انتشار زراعة قصب السكر, كما اننى على استعداد للتعاون مع اى جهة فى مصر لتدشين مركز للتدريب على هذه الصناعة بالاستعانة ببعض من يعملون فى هذا المجال و عدد من المتخصصن من مركز البحوث, هذا ما ارانى استطيع القيام به حيال تحديث و تطوير هذه الصناعة التراثية الهامة.
و من هنا فأننى ادعوا كافة المهتمين بهذا الشأن سواء علماء مراكز البحوث او استذة الجامعات و الجهات التمويلية و العاملين فى الاعلام سواء المقروء او المسموع او المرئى الى الاهتمام بها و القاء الضوء عليها, لاخراجها من كبوتها و نشرها و الحفاظ عليها لما لها من اهمية غذائية و صحية و تراثية, و الله من وراء القصد.
* و كيل معهد بحوث المحاصيل السكرية- مركز البحوث الزراعية