العيش من القمامة في تونس

محمد التفراوتي17 ديسمبر 2012آخر تحديث :
العيش من القمامة  في تونس

نبيل زغدود (تونس)

ينبشون حاويات القمامة والمكبات بحثاً عن مواد يبيعونها إلى وسطاء يقومون بدورهم ببيعها إلى شركات أو مصانع لإعادة التدوير

vivre__poubele

تقدر وزارة البيئة والتنمية المستديمة في تونس كمية النفايات المنزلية المنتجة سنوياً في البلاد بنحو 2.5 مليون طن، يتم التصرف بأكثر من ثلثها بالمعالجة والتدوير. ويبلغ حجم «سوق النفايات» في تونس نحو 130 مليون دولار سنوياً.

ينشط في هذه السوق أكثر من 8000 شخص، يُطلق عليهم اسم «البرباشة»، أي ممارسي التنقيب والفرز. تراهم يجوبون الشوارع والأزقة وهم يبحثون داخل حاويات الفضلات المنزلية عن قارورة بلاستيكية أو علبة مشروبات أو ورق مقوّى (كرتون) أو تجهيزات منزلية تحتوي على معادن قابلة لإعادة التدوير                                                                                 

ازدهرت مهنة البرباشة في منتصف تسعينات القرن الماضي، بعدما كانت مقتصرة على المكبات الكبرى حيث يتجمّع يومياً مئات الأشخاص للبحث عن أشياء ثمينة وأدوات وآلات معطوبة لبيعها في أسواق الخردة.

يقطع البرباش يومياً عشرات الكيلومترات ليجمع نحو 20 كيلوغراماً من المواد القابلة للبيع لدى مؤسسات خاصة يديرها وسطاء، يبيعون بدورهم تلك المواد الآتية من القمامة والقابلة للتحويل الى شركات كبرى تعمل في مجالات البلاستيك والنحاس والزجاج والورق المقوّى وغير ذلك.

قابلنا «الخالة ربح» (52 عاماً) وهي محمّلة بكيسين كبيرين من القوارير البلاستيكية، بالقرب من أحد المكبّات في ضاحية العاصمة التونسية. قالت لـ «البيئة والتنمية»: «منذ تسع سنوات أنبش في المكبّات. لقد أجبرتني ظروف الحياة على النبش في القمامة لتأمين حاجات عائلتي اليومية».

وأضافت: «أخرج يومياً قرابة الساعة السادسة صباحاً، وأقصد في غالب الأحيان مكبّ جبل شاكير (في ضواحي العاصمة) لجمع القوارير البلاستيكية وكلّ ما أعثر عليه من عوادم الأواني المنزلية وخاصّة النحاس».

شركات خاصة

يبيع البرباش كيلوغرام البلاستيك بأقلّ من ربع دولار، ليصل سعره بعد إعادة التدوير إلى 1.5 دولار. وهو أيضاً لا يحصل إلا على ربع دولار للكيلوغرام الواحد من النحاس الذي يُباع بعد إعادة تدويره بثمانية دولارات. ويذهب فارق السعر إلى الوسطاء ومصانع التحويل. وتختلف أسعار تلك المواد من وسيط إلى آخر. ولكن، عموماً، لا يتجاوز الدخل اليومي للبرباش ستة دولارات، في حين أن هذه الصنعة تدرّ على الوسطاء مبالغ طائلة تفوق 130 مليون دولار سنوياً.

في هذا السياق، تقول الخالة ربح: «لا يتجاوز دخلي اليومي ثلاثة دولارات ممّا أجمعه من القوارير البلاستيكية، التي أبيعها بأقل من ربع دولار للكيلوغرام، لأحد الوسطاء الذي يفرزها ويبيعها لشركات إعادة التدوير بأضعاف الثمن الذي اشتراه مني».

وأخبرنا كهل له من العمر 45 عاماً مكلّف بحراسة أحد المكبّات، وهو طلب عدم ذكر اسمه: «أنا أتقاضى يومياً سبعة دولارات لتأمين حراسة المكبّ ومنع البرباشة من الدخول إليه. لكنني اضطر إلى مخالفة القوانين والسماح لهم بذلك للبحث عن لقمة عيش أبنائهم، في مقابل عمولة آخذها منهم». وأضاف: «أنا أيضاً أنبش في أكوام القمامة، وأركز على جمع الآلات المنزلية المرمية وعلب المشروبات المعدنية، فأبيعها بدولار للكيلوغرام، في حين يصل سعره بعد إعادة تدويره إلى ثمانية دولارات».

لم تحرّك الدولة ساكناً لتأطير هذا القطاع، بل ساهمت في تهميش آلاف البرباشة من خلال إقرارها عام 2001 قانوناً يسمح للقطاع الخاص بإنشاء شركات لجمع النفايات ونقلها ومن ثم فرزها واستغلال المواد القابلة لإعادة التدوير.

أعطى هذا القانون الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات صلاحية مطلقة في إسناد الرخص إلى الراغبين في إنشاء شركات لجمع النفايات ونقلها. فأصبح البرباشة مضطرّين الى بيع ما يجمعونه لتلك الشركات بمبالغ زهيدة. واللافت أن بعض تلك الشركات حادت عن نشاطها الأصلي لتحوّل مستودعاتها الى ورش للفرز. بل ان العديد منها أصبح مجهزاً بآلات لتقطيع البلاستيك والمعادن وتحويلها الى حبيبات يتمّ بيعها من أجل تذويبها وإعادة استعمالها في صناعات كاللفّ والتعليب. وليس مستبعداً أن يكون الوعاء البلاستيكي الذي اشتريته مصنوعاً من القوارير التي رميتها قبل أيام في حاوية النفايات.

ويمكن القول ان خسارة الدولة مضاعفة. فبالاضافة الى انتهاك تلك الشركات لقوانين العمل باستغلالها آلاف الأشخاص من دون تمكينهم من حقوقهم المادية والمعنوية، فهي لا تدفع أي رسوم على الأرباح، ما يعني أنّ خزينة الدولة لا تنتفع من هذا النشاط التجاري الهام.

انتهاكات صحية وبيئية

على رغم أن قانون 2001 حدّد نشاط ومسؤولية الشركات المختصّة بجمع النفايات ونقلها وفرزها، ففي غياب المراقبة وتطبيق القانون تسبّبت تلك المؤسسات في العديد من المشاكل البيئيّة، التي يمكن اعتبارها جريمة حق عام لخطورة ممارسات تلك الشركات على المحيط. فبعد الاستفادة من المواد القابلة لإعادة التدوير، يتم التخلص من بقية النفايات بطريقة عشوائية، إما بإلقائها خارج المكبات البلدية وإما بالابقاء عليها داخل مستودعات تلك الشركات لمدّة طويلة، فتتحول الى مصادر للأمراض وأوكار للجراثيم. وهذا دفع بآلاف المواطنين القاطنين بالقرب من تلك المستودعات الى ارغام أصحابها على غلقها بعد الثورة. وحتى اليوم توجد في المدن الكبرى فضاءات لجمع الفضلات داخل الأحياء السكنية، تنبعث منها الروائح الكريهة، من دون أن تحرك المصالح البلدية أو الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات ساكناً من أجل وضع حدّ لهذه الانتهاكات.

وتقوم بعض الشركات المختصّة بجمع الزيوت المستعملة من المطاعم والتخلص منها في الأودية والأنهار أو في السباخ والبحر بل وحتى في قنوات الصرف الصحي.

وقد أعلن الطيب رمضان، مدير عام الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، ان الوكالة تحرص على العناية بالعاملين في منظومة جمع النفايات وتدويرها، في إطار «برنامج التصرف المندمج والمستديم في النفايات».

كلام الصورة رقم 6: صبي يعمل “برباشاً” في مكبّ النفايات في جبل شاكير غرب العاصمة تونس.

(ينشر بالتزامن مع مجلة “البيئة والتنمية” عدد أيار/مايو 2012)

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!