في حضرة جدي الفيلالي: أنشودة الأسماء وأوراق الحياة الأولى

محمد التفراوتي21 ديسمبر 2006آخر تحديث :
في حضرة جدي الفيلالي: أنشودة الأسماء وأوراق الحياة الأولى

مكناس: محمد التفراوتي

كان جدي سيدي محمد بن هاشم– رحمه الله – يدعوني لأجلس بجانبه كي أتابع معه تلاوة بعض السور من القرآن الكريم، لأن عينيه لم تعودا تسعفانه على القراءة من المصحف. كنت أحمل المصحف بين يدي، وجدي يتلو بصوته العذب وبالصيغة “الفيلالية” السجية والممتعة، تلك اللهجة التي كانت تفيض روحا وتاريخا.

من أجمل ما كان يحمسنا للحفظ عن ظهر قلب، إلى جانب بعض السور القريبة من قلبه، قصيدة طويلة وجميلة في أسماء الله الحسنى. كانت أنشودة يرددها جدي ونحن نردد خلفه، في تنافس طفولي بريء. كنت أنا وابنة خالتي “رشيدة”، التي كنا نعيش معا، ننافس بعضنا في الحفظ والإنشاد.

بدأت ببـسم الله في أول السـطر ******فأسماؤه حصن منيع من الضر
وصليت في الثأني على خير خلقه ***** محمد المبعوث بالفتح و النصر
إذا استفتح القراء في محـكم الذكر******فباسمك يا ذا العرش يستفتح المقر
 إذا نابني خطب و ضاق به صـدري******تلاقاه لطف الله من حيث لا أدري
و لا سيـما إذ جـئـته متوســلا****** بأسمائه الحسنى المعظمة القدر
وهكذا….
وكثيرا ما كانت ابنة خالتي تتفوق علي، أداء وحفظا، وكانت تلك الغلبة ترفع حرارة التنافس لدي، على أمل أن أحظى بكلمة مدح من جدي أو نظرة فخر صغيرة. لكنه، رحمه الله، كان يقول الحقيقة كما هي، لا يجامل، ولا يبدل الميزان. وكنت أخجل أحيانا من تقصيري، لكن ذلك الخجل كان يدفعني إلى الاجتهاد أكثر، في محطات عديدة من الطفولة.

وكل صباح، كنت مدمنا على لحظة صغيرة لكنها عظيمة الأثر: لحظة قراءة “يومية بوعياد”. كان هذا الوسيط الورقي الشعبي هو الأكثر حضورا في بيوت المغاربة خلال القرن الماضي، وكان جدي يحرص على قراءته يوميا. وكنت أحرص على أن أكون أول من يقرأ له الورقة، فأهرول إلى غرفته فور استيقاظي، أحاول أن أسبق المنافسين (رشيدة وأخي إدريس) الذين كانوا دوما أسرع مني في الحركة والنشاط.

لكنني، في هذه المعركة اليومية الصغيرة، كنت غالبا ما أنجح. أفتح الورقة وأبدأ في التهام محتواها بشغف لا يضاهى: التقويم اليومي الهجري والميلادي والفلاحي، أوقات الصلاة بحسب المدينة، حكمة اليوم، حديث شريف أو آية بليغة، فائدة طبية أو علمية من صميم التراث المغربي، أو قول مأثور يحمل عبق الزمن.

كنت أدون تلك الذرر النفيسة في دفتري الصغير، وأحفظها بعناية. كنت أستعين بها لاحقا في مواضيع الإنشاء، في المدرسة الابتدائية، فأستند إليها في التعبير، أو أجعلها محسنات بلاغية في النصوص. كنت أستشهد بها كما يفعل الكبار، لأعزز بها سطورا تحاول أن تقول شيئا أكبر من سني.

كنا نعيش زمنا بسيطا، لكنه عميق. زمنا لم تكن المعرفة فيه تسكب دفعة واحدة مثل شلال جارف كما هو الحال اليوم، بل كانت ترتشف على مهل، وتحفظ في القلب قبل الدفتر.

ذاك الزمان لم يكن زمن وسائط رقمية، بل زمن وسائط إنسانية… فيه البصر والبصيرة، وفيه جدي… ذاك المعلم الأول، الذي علمنا كيف نحفظ القرآن، وكيف نقرأ الحياة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!