آفاق بيئية : عبدالهادي النجّار
بالنسبة إلى كثير من الناس، يمكن اعتبار 2018 سنة التغيّر المناخي، حيث ظهرت آثاره واضحة في العديد من الكوارث الطبيعية التي اجتاحت العالم. فمن حرائق الغابات الواسعة في أميركا الشمالية وشمال أوروبا إلى موجة الحر التي ضربت جنوب أوروبا، ومن العواصف والأعاصير المدمرة التي اجتاحت القارة الأميركية وشرق المحيط الهادئ إلى الفيضانات الكارثية في الشرق الأوسط. وفي أكثر من مكان كان تغير المناخ حديث عامة الناس لأول مرة.
أما الأخبار الجيدة في 2018، فكانت تتعلق بالتوجه العالمي لترشيد استهلاك المواد البلاستيكية وحظر استخدام الأكياس ذات الاستخدام الواحد، وذلك بعد قيام الصين بتطبيق إجراءات تصاعدية في سياستها المعلنة لتقييد استيراد المخلفات القابلة للتدوير وزيادة التفتيش على خلو الواردات من الشوائب والمواد الملوثة.
وفيما كان اهتمام الكثير من المدن منصباً على مشاكل المخلفات البلاستيكية، كانت مدن أخرى تواجه تحدياً مصيرياً في توفير مياه الشرب الآمنة. وعلى خطى السنوات السابقة، تتجه سنة 2018 لتحقيق رقم قياسي جديد في حجم مزارع الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح، في قطاع تشير التحليلات إلى قدرته على المنافسة من دون دعم حكومي.
تغير المناخ وآثاره الكارثية
من المتوقع أن تحطم سنة 2018 الأرقام القياسية، لاسيما ما يخص درجة حرارة المحيطات، التي تؤشر على درجة حرارة الكوكب بمجمله. فقد ارتفع منسوب المياه في المحيطات بنحو 8 سنتمترات عما كانت عليه الحال في تسعينيات القرن الماضي، ومستوى انبعاث غازات الدفيئة سيتجاوز مرة أخرى جميع المعدلات السنوية السابقة، حيث تشير التقديرات إلى أن الزيادة هي في حدود 2 في المئة مقارنة بمستويات 2017.
وعلى الرغم من البراهين المتزايدة على كارثية تغير المناخ، التي تؤكدها التقارير العلمية والأممية، تبدو الفجوة بين ما يجب تطبيقه وما يتم اتخاذه من إجراءات أكثر اتساعاً يوماً بعد يوم. ففي الولايات المتحدة، يجادل الرئيس دونالد ترامب في العامل البشري المسبب للاحتباس الحراري ويتابع تنفيذ تعهداته في إلغاء جميع السياسات المناخية التي تبناها باراك أوباما. ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فالرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو تعهد بفتح غابات الأمازون المطيرة أمام الاستثمارات الاقتصادية، ما يهدد بزيادة ثاني أوكسيد الكربون في الجو.
درجات الحرارة المرتفعة وتراجع الهطول المطري جلبا الجفاف إلى غرب الولايات المتحدة، وهذا جعل الغابات في كاليفورنيا وغيرها من الولايات عرضة لمخاطر الحرائق بشكل كبير، حيث بلغت مساحة المناطق المتضررة هذه السنة ضعفي المساحة التي أتت عليها النيران في حرائق 1970. وفي المقابل، كان الساحل الشرقي للولايات المتحدة ضحية للعواصف والفيضانات. فعلى غرار الإعصار هارفي الذي ضرب هيوستن في 2017 تمكن الإعصار فلورنس في 2018 من إغراق سواحل كارولينا الشمالية بهطول مطري غير مسبوق.
أما أقوى إعصار هذه السنة فكان إعصار مانكوت الذي ضرب الصين والمناطق المحيطة بها، وتسبب بمقتل العشرات في الفيليبين وحصول انزلاقات أرضية. وفي العالم العربي، شهد الأردن كارثتي سيول فقد فيهما أكثر من ثلاثين شخصاً حياتهم، كما عرفت دمشق والكويت ومدن عدة في بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية هطولات مطرية غزيرة تسببت بحصول فيضانات واسعة، وألحقت أضراراً كبيرةً في الممتلكات، وجعلت تغير المناخ مدار حديث عامة الناس.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أصدرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ تقريرها الخاص حول “الاحترار العالمي بمقدار 1.5 درجة مئوية”. وتضمن التقرير نظرة قاتمة إلى مخاطر ارتفاع درجة الحرارة بفارق نصف درجة، أي ما بين 1.5 و2 درجة مئوية زيادة في حرارة كوكب الأرض قبل الثورة الصناعية، حيث سيرتفع عدد الناس الذين يتعرضون لموجات حر شديدة من 14 إلى 37 في المئة من تعداد سكان الأرض، وسيزداد عدد الأنواع الحية التي تفقد موائلها ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف. وهذا ما دفع الدول المجتمعة غب قمة المناخ الـ 24 في بولندا في نهاية 2018 إلى توافق سياسي في الحدود الدنيا على قواعد تنفيذ اتفاقية باريس المناخية.
حرب على البلاستيك
ولئن كانت 2018 سنة الكوارث المناخية، فهي أيضاً سنة الوعي العالمي لمخاطر المخلفات البلاستيكية. فقد تم تصنيع أكثر من 9 بلايين طن من المواد البلاستيكية على مر التاريخ، من بينها نحو 7 بلايين طن لم تعد مستخدمة، وأصبحت توصف على أنها نفايات بلاستيكية انتهى معظمها في المكبات، وتسرّب جزء منها إلى الأوساط الطبيعية، وكذلك إلى الكتلة الحية بما فيها الإنسان.
ومع مطلع 2018، بدأت الصين بتطبيق إجراءات تصاعدية في سياستها المعلنة لتقييد استيراد المخلفات القابلة للتدوير وزيادة التفتيش على خلو الواردات من الشوائب والمواد الملوثة. وكانت الصين حتى وقت قريب الوجهة المفضلة للتخلص من النفايات المكلفة تحت مسمى “تجارة المواد القابلة للتدوير”. وقد استقبلت وحدها نحو 45 في المئة من نفايات العالم البلاستيكية منذ سنة 1992. وعلى المدى البعيد، من المتوقع أن ترفع الإجراءات الصينية الدول الغربية لتطوير سياساتها في تخفيض استهلاك المنتجات البلاستيكية وتحسين معدلات التدوير محلياً.
ومنذ نجحت ولاية كاليفورنيا في سنة 2014 بفرض حظر على الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، بدأت الكثير من الدول والمدن حول العالم في اعتماد تشريعات مشابهة. وفي 2018، تبنت فرنسا قانوناً يمنع تصنيع ورمي الأطباق وأدوات المائدة البلاستيكية، وقضت ألمانيا بدفع سلفة مالية لاسترداد أكواب القهوة المتعددة الاستخدام، واعتمدت بريطانيا ضريبةً على الأكياس البلاستيكية.
ولاتزال الخطوات العربية باتجاه الإقلال من استهلاك البلاستيك خجولة نسبياً، وإن كانت بعض الدول كالإمارات والأردن وتونس والمغرب وقطر، ومدن في السعودية والسودان، وضعت قيوداً على إنتاج واستهلاك الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد أو تلك التي تستخدم في تعبئة وحفظ الأغذية. علماً أن الدول الخليجية تستهلك 8 في المئة من إجمالي البلاستيك المنتج عالمياً. وتحتل السعودية المرتبة الأولى في الشرق الأوسط في معدل استهلاك الفرد من الأكياس سنوياً، حيث تصل الكمية إلى 40 كيلوغرام في مقابل المعدل العالمي الذي يبلغ 24 كيلوغراماً للشخص سنوياً.
موارد مائية محدودة
وبينما كان اهتمام بعض المدن منصباً على معالجة مشكلة المخلفات البلاستيكية، كانت مدن أخرى تواجه مشكلة مصيرية كبرى هي توفير مياه الشرب الآمنة. فمدينة كيب تاون، ثاني كبرى مدن جنوب أفريقيا، حددت في 2018 موعداً لتوقف تزويد سكانها بمياه الشرب نتيجة الجفاف المستمر منذ سنوات، لكن هطول الأمطار أنقذ المدينة من ورطتها.
وقد دفع العطش وندرة المياه مدناً مغربية إلى الخروج في مظاهرات تطالب بإيجاد حل لهذه الأزمة المتسعة نتيجة تراجع معدلات تساقط الأمطار والاستنزاف المتزايد للمياه الجوفية. وفي العراق، سجّلت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في محافظة البصرة ارتفاع حالات التسمم جراء تلوث مياه الشرب لتصل إلى أكثر من 100 ألف حالة بنهاية 2018. وكانت شكاوى أهل البصرة تصاعدت من زيادة ملوحة المياه، خاصة بعد أن حوّلت إيران مجرى نهر كارون الذي تصب فيه المنصرفات الملوثة، فوصلت إلى شط العرب وتسربت إلى شبكة المياه العامة في البصرة لتجعلها غير صالحة للاستخدام، فضلاً عن انخفاض منسوب مياه نهري دجلة والفرات، وتوقّف محطة التحلية الرئيسية في المدينة حيث بات شراء المياه العذبة الصالحة للاستخدام عبئاً مادياً كبيراً على الأهالي.
وفي ظل العجز المتنامي في الموارد المائية، تقوم بعض البلدان العربية بتطبيق أساليب غير تقليدية لتوفير المياه، إلا أن الحل الجذري يبدأ من تحسين الكفاءة والحد من الهدر.
الحاضر للطاقة المتجددة
وبعيداً عن الحلول الخضراء، لاتزال الدول العربية تعتمد بشكل شبه كامل على الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة، ويستثنى منها السودان الذي يستغل نهر النيل في توفير حاجته من الكهرباء. مع ذلك، تدعم دول عربية عدة مشاريع رائدة تهدف للتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، حيث صنّف تقرير صدر عن البنك الدولي في نهاية 2018 كلاً من الإمارات ومصر والأردن وتونس ضمن مجموعة الدول التي تشهد تحسناً متسارعاً في سياساتها الداعمة للطاقة المتجددة والمعززة للكفاءة.
عالمياً، تعد صناعة الخلايا الكهروضوئية من أسرع الصناعات نمواً. وعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، ازداد حجم إنتاج الطاقة الشمسية الكهروضوئية بمعدل نمو سنوي يزيد عن 40 في المئة، وأصبحت الصين الدولة الصناعية الرئيسية للخلايا والوحدات الشمسية تليها تايوان وماليزيا.
وقد تجاوزت كمية الكهرباء المولّدة من الشمس سنة 2018 نحو 500 جيغاواط، أي نحو 3 في المئة من مجموع الطلب العالمي. ومن المتوقع أن تتضاعف الكهرباء الشمسية ثلاث مرات بحلول عام 2023.
وتلعب التطورات التكنولوجية المتسارعة دوراً رئيسياً في نمو الاعتماد على الطاقة النظيفة في جميع أنحاء العالم. وفيما تصبح تقنيات الطاقة المتجددة أرخص وأكثر كفاءة وملاءمة، فإنها تشجّع على توظيف المزيد من الاستثمارات في البحث والتطوير، ما يخلق دورة من الابتكار المستمر المدفوع بمتطلبات السوق.