آفاق بيئية :مجلة البيئة والتنمية
في عشرينات القرن الماضي لاحظت كبرى الشركات الصانعة للمصابيح الكهربائية أن استهلاك الناس للمصابيح منخفض، نتيجة ديمومتها لنحو 1500 إلى 2000 ساعة. فاجتمع رؤساء هذه الشركات في جنيف نهاية سنة 1924 وقرّروا تقصير عمر المصابيح إلى 1000 ساعة فقط بهدف مضاعفة الإنتاج وزيادة الأرباح.
منذ ذلك الإفشال المتعمّد لجودة المصابيح الكهربائية، تطوّرت سياسة إنتاجية في الصناعات الاستهلاكية اسمها “التقادم المُخطَّط” Planned Obsolescence، وهي ممارسة ذات عوائد تجارية كبيرة لأنها تزيد حجم الإنتاج وتعزّز ثقافة الاستهلاك، لكنها في المقابل ذات أثر ضار بالبيئة يظهر في استنفاذ الموارد الطبيعية وزيادة المخلفات والانبعاثات.
المصمم الصناعي الأميركي بروكس ستيفنز كان أفضل من قدّم وصفاً متكاملاً لهذه الحيلة التسويقية في محاضرة ألقاها سنة 1954، فاعتبر أن غاية التقادم المخطط هي غرس الرغبة لدى المشتري في شراء منتج جديد يحتوي على تحسينات بسيطة، وذلك قبل انتهاء صلاحية استخدام المنتج القديم. ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا المصطلح مثار الجدل ومدار النقاش حول أخلاقيات التصميم الصناعي وحقوق المستهلك.
تقادم الهواتف الذكية
في حياتنا اليومية الكثير من المنتجات التي جرى تصميمها كي نتوقف عن استعمالها بعد فترة محددة من الزمن. ونحن هنا لا نتحدث عن “نظرية مؤامرة” بل عن حقائق مثبتة ووقائع معروفة.
على سبيل المثال، تحتوي معظم طابعات الكومبيوتر وعبوات الحبر الخاصة بها على شرائح إلكترونية لتعطيلها بعد طباعة عدد محدد من الأوراق، بصرف النظر عن حالتها الفنية، وغالباً ما يكون مصير هذه الطابعات أن تتحول إلى نفايات إلكترونية في غضون ثلاث أو أربع سنوات من شرائها. وفي حالات كثيرة يكون ثمن الطابعة الجديدة المحتوية على عبوات حبر أرخص من العبوات نفسها. وكذلك هي حال الهواتف الذكية، التي أصبح المستهلك مضطراً للتخلص منها بسبب عدم دعمها برمجياً لمطابقة أنظمة التشغيل الأحدث.
بعض عبوات الحبر تتضمن شرائح إلكترونية للتحكم في التقادم المخطط
وكثيراً ما واجهت شركتا أبل وسامسونغ اتهامات باتباعهما سياسة التقادم المخطط عند تصميم منتجاتهما الرقمية. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2018، قامت السلطات الإيطالية بفرض غرامة مقدارها 10 ملايين يورو على أبل و5 ملايين يورو على سامسونغ بسبب هذه السياسة، حيث أظهر تحقيق أجرته هيئة المنافسة العادلة في البلاد أن تحديثات الهواتف الذكية المصنّعة من قبل الشركتين كان لها تأثير سلبي على أداء الأجهزة، وخاصة عمر البطارية.
وجاء هذا القرار، الأول من نوعه ضد عملاقي تصنيع الهواتف الذكية، بعد تحقيق استمر عدة أشهر. واعتبرت الهيئة في بيان رسمي أن الشركتين “نفذتا ممارسات تجارية غير شريفة”، وأن تحديثات نظام التشغيل من قبل الشركتين “تسببت في أعطال خطيرة وأداء منخفض بشكل كبير ما أدى إلى التسريع في استبدال الهواتف”.
وكانت شركة أبل اعترفت في نهاية 2017 أنها تعمدت إبطاء معالجات أجهزة أيفون التي تقادمت بطارياتها نتيجة الاستخدام، وذلك من خلال تحديث برنامج التشغيل لتجنب مشاكل الإغلاق المفاجئ، لكنها نفت القيام بأي شيء للتقصير من عمر المنتج. ولاحقاً، اعتذرت الشركة عن أفعالها، وخفضت تكلفة استبدال البطاريات، كما أضافت واجهة برمجية في أنظمتها تعرض وضع البطارية مع السماح للمستخدمين بإيقاف تباطؤ المعالج.
وتواجه أبل اتهامات جنائية خطيرة بممارسة التقادم المخطط في فرنسا، وهي من البلدان القليلة التي تعتبر أن تقصير عمر أي منتج من أجل زيادة المبيعات جريمة تستوجب العقاب بالسجن أو غرامة تصل إلى 5 في المئة من قيمة المبيعات السنوية.
يواجه صانعو الهواتف الذكية اتهامات متكررة بتطبيق التقادم المخطط
إن تسريع استهلاك الهواتف الذكية واستبدالها بأخرى جديدة لا يمثل إرهاقاً على جيوب المستهلكين فحسب، بل يضع أيضاً هذه المنتجات ضمن صدارة التقنيات الضارة بسلامة البيئة وصحة الإنسان. وتبلغ كمية الهواتف الذكية التي يجري التخلص منها يومياً في الولايات المتحدة 416 ألف جهاز، تُضاف إلى 142 ألف جهاز كومبيوتر تصبح غير ذات قيمة بالنسبة لأصحابها يومياً، وفقاً لتقديرات وكالة حماية البيئة الأميركية.
وتستخدم الهواتف الذكية، وكذلك الأجهزة الإلكترونية الأخرى القابلة لإعادة الشحن، بطاريات الليثيوم أيون التي تحتوي على معدن الكوبالت. ويقترن هذا المعدن بانتهاك حقوق العمال والحروب الأهلية، لاسيما في الكونغو الديمقراطية، حيث توفر مناجمها 60 في المئة من إنتاج الكوبالت العالمي.
كما ينطوي تعدين الكوبالت على مخاطر لا يعرفها كثيرون، مثل القضاء على المجموعات النباتية التي تعتمد على التربة الغنية بالنحاس والكوبالت، والأثر التراكمي الخطير لغبار التعدين المحمّل بالكوبالت واليورانيوم والمعادن الأخرى على صحة المجتمعات المحلية.
وإلى جانب الكوبالت، تدخل معادن كثيرة في صناعة البطاريات القابلة للشحن مثل الليثيوم والنيكل. وكان تعدين الليثيوم، في منجم “غانتززهو رونغدا” في هضبة التيبت، تسبب قبل ثلاث سنوات في تسرب مواد كيماوية قضت على النظام البيئي المحلي في نهر “ليكي”. أما تعدين النيكل وصهره، فيقترن بارتفاع التشوهات الخلقية والمشاكل التنفسية لدى العديد من المجتمعات التعدينية، كما في منجم “سيرو ماتوسو” في كولومبيا.
وفي ردّها على الاتهامات الموجهة لها، تنكر شركة أبل أية مسؤولية أو تقصّد لارتكاب التقادم المخطط، وتعتبر أن التحديث البرمجي الذي تُدخله على أنظمة التشغيل هو أشبه بعمل متعهد البناء الذي يُمنح الموافقة على هدم ما يريد من أجل صيانة وتحديث التمديدات والتشطيبات المنزلية. إن اتفاقية ترخيص نظام التشغيل التي يوافق عليها المستخدم (ويتجاهل قراءتها عادةً) هي بمثابة الموافقة المسبقة على إجراء التعديلات التي تراها الشركة مناسبة، من وجهة نظر أبل.
وليس من السهل دائماً تحديد ما إذا كان التقادم مخططاً، حيث توجد العديد من الأسباب التي تجعل المنتج غير مرغوب به بعد فترة من شرائه كتخلّفه عن التطور التقني السريع أو خروجه من دائرة الذائقة الاجتماعية المتغيرة. كما يرى البعض أن التقادم المخطط مطلوب في بعض المجالات بسبب ما يُعرف بـهندسة القيمة. فالسيارات مثلاً انخفضت أسعارها بشكل كبير وأصبحت متاحة لقطاعات واسعة من الناس بفضل استعمال مواد خفيفة ورخيصة لا تدوم لسنوات طويلة.
سياسات جديدة لمواجهة التقادم
غالباً ما يتفاعل المستهلكون سلباً مع التقادم المخطط، خاصةً إذا كانت الأجيال الجديدة من المنتج تتضمن تحسينات محدودة على الإصدارات السابقة. ويمكن أن تصبح هذه الاستراتيجية غير فعالة في الأسواق الشديدة التنافس على أساس السعر أو المتانة، وقد يتسبب التقادم المخطط بإلحاق ضرر بسمعة الشركات وابتعاد العملاء عنها.
وبعد سنوات من الضغط، اكتسبت مشكلة التقادم المخطط أرضية في الساحة التشريعية الأوروبية، عندما وافق البرلمان الأوروبي على تبني قرار تحت عنوان “عمر أطول للمنتجات: فوائد للمستهلكين والشركات” يدعو فيه إلى التشجيع على وضع معايير مقاومة دنيا تغطي، من بين جملة أمور، الصلابة وقابلية الإصلاح والقدرة على الترقية لكل فئة من فئات المنتجات، من مرحلة التصميم فصاعداً.
ويشدد القرار الأوروبي على وجوب إقامة توازن بين تمديد عمر المنتج وتحويل النفايات إلى موارد (مواد خام ثانوية) والتعايش الصناعي والابتكار وحاجة المستهلك وحماية البيئة وسياسة النمو في جميع مراحل دورة المنتج. ويعتبر أن تطوير المنتجات ذات الكفاءة في استخدام الموارد بشكل متزايد يجب ألا يشجع على العمر الافتراضي القصير أو التخلص المبكر من المنتجات.
ويشير القرار إلى أن قضايا مثل متانة المنتج، والضمانات الموسعة، وتوافر قطع الغيار، وسهولة الإصلاح وقابلية استبدال المكونات يجب أن تكون جزءاً من العرض التجاري للشركة الصانعة، وذلك لتلبية مختلف احتياجات وتوقعات المستهلكين وتفضيلاتهم، ولضمان المنافسة الحرة في الأسواق.
واستناداً لمسح أجرته مؤسسة يوروباروميتر، يفضل 77 في المئة من المستهلكين في الاتحاد الأوروبي محاولة إصلاح السلع المكسورة بدلاً من شراء سلع جديدة. في حين أن المعلومات المقدمة إلى المستهلكين بشأن متانة المنتجات وقابليتها للإصلاح لا تزال بحاجة إلى تحسين.
“الحق في التصليح”
ويتّسع حول العالم نشاط المجموعات التي ترفع شعار “الحق في التصليح”، وهي تحالف مدني يضم متطوعين وناشطين يديرون مراكز ومقرات إصلاح وإعادة تشغيل المنتجات التي تعطلت قبل أوانها، مثل أجهزة المطبخ الكهربائية وأجهزة الكومبيوتر والاتصالات والمستلزمات المنزلية الأخرى، كالأثاث والمصابيح والملابس والدراجات وغيرها.
شهدت نهاية 2018 أولى الاحتجاجات الأهلية من أجل “الحق بالتصليح”
ويشتكي نشطاء حماية المستهلك في الاتحاد الأوروبي من أن المفوضية سمحت للشركات بالسيطرة على عملية تصليح الأجهزة من خلال الإصرار على أن بعض المنتجات يجب إصلاحها من قبل محترفين تحت سيطرة الشركات المصنّعة.
وفي المقابل، يرحّبون بحزمة المقترحات المقدمة حالياً من قبل وزراء البيئة الأوروبيين لإجبار الشركات على تصنيع سلع تدوم لفترة أطول على أن تكون أسهل في التصليح أيضاً. وتستهدف المقترحات الأوروبية الجديدة تجهيزات الإضاءة وأجهزة التلفزيون والأجهزة المنزلية الكبيرة. كما تدرس 18 ولاية أميركية مشاريع قوانين مماثلة تستهدف المنتجات ذات المكونات المدمجة التي لا يمكن استبدالها بسهولة، أو تلك التي لا يتوفر لها قطع غيار أو تعليمات صيانة.
وتستند السياسات الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة إلى معطيات إحصائية تثير القلق، حيث أظهرت إحدى الدراسات أنه خلال الفترة بين 2004 و2012 ارتفعت نسبة الأجهزة المنزلية الأساسية التي جرى التخلص منها، بعد أقل من خمس سنوات على شرائها، من 3.5 في المئة إلى 8.3 في المئة.
وتقدّر دراسة أخرى أنه، نتيجة لانبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري خلال عملية التصنيع، ستوفّر آلة الغسيل المتينة، التي تدوم عقدين من الزمن، ما مقداره 1.1 طن من ثاني أوكسيد الكربون مقارنةً بالطرازات القصيرة الأجل. كما أن العديد من أجهزة الإضاءة المباعة في أوروبا تتضمن مصابيح لا يمكن استبدالها، لذلك يرمى الجهاز بأكمله عندما يتضرر المصباح.
ماذا يجب علينا أن نفعل لمواجهة التقادم المخطط لتوفير المال وحماية البيئة؟ الخطوة الأولى يجب أن تكون في تقدير حاجتنا الفعلية الحقيقية لجهاز جديد، وعندما نفكر في الشراء علينا التعرف على التكلفة البشرية للتقنية وقيمتها المضافة، إن وجدت. يجب ألا نكون جزءاً من المشكلة عندما يتعلق الأمر بالتدمير الإيكولوجي وحقوق الإنسان، ونعمل دائماً على استخدام التقنيات الجديدة بحكمة ووعي. لكن وعي المستهلك لا يكفي، إذ يجب دعمه بتدابير حكومية تحاسب الشركات على الممارسات المقصودة والتصنيع المبرمج لتقصير عمر الأجهزة، كما تجبرها على تأمين قطع غيار وإصلاح الأعطال لفترة طويلة.
عن مجلة “البيئة والتنمية”، عدد آذار (مارس) 2019