حسن بويخف: السياسة تقتل فينا الإنسان، هذه هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها حين النظر في حركة التضامن الشعبي، فتكتشف أن المحرك الأساسي فيها هو العامل السياسي أو العقدي و ليس الإنساني. سواء في التضامن مع “قضايا الأمة” المتعلقة بالغزو الأجنبي أو الاعتداء أو التهويد أو تدنيس أماكن العبادة وغيرها أو تعلق بالتضامن مع الشعوب التي تتعرض للقمع بالحديد والنار من طرف الأنظمة السلطوية خلال الربيع العربي. وما أن يبدأ سقوط الشهداء في أحد بلدان الثورة حتى تهب الشعوب في باقي الدول لنصرتها، فتنظم المسيرات التي غالبا ما تدخل في مواجهات مع الأمن و قد يسقط فيها شهداء بدورها أو تخلف جرحى ومعتقلين.
لكن هل هبت تلك الشعوب بنفس القوة للتضامن مع الشعب الصومالي مثلا الذي يقتله الجوع بدون تمييز بين صبي وشيخ وامرأة؟ هل هبت بمقدار معشار التضامن السياسي والعقدي مع شعب يسقط منه المئات من الأشخاص يوميا، لا بسبب ثورة سياسية ولكن فقط بسبب شح لقمة العيش؟
ورغم أن فاجعة الصومال لا تخفى على أحد اليوم، فلا بد من التذكير بحقائق أكدتها المنظمات الدولية، حيث حذرت منظمة الصحة العالمية من تدهور الوضع الصحي في الصومال بسبب موجة الجفاف والمجاعة التي تضرب مناطق عديدة منه، موضحة أن التدهور الحالي في الخدمات الأساسية ونقص الغذاء والدواء يؤدي إلى تفاقم الأمراض التي تنتقل بالعدوى، وإلى ارتفاع معدلات المرضى والوفاة خاصة بين الأطفال.
وذكر ت المنظمة الدولية في بيان لها الأربعاء، أن الأطفال دون سن السنتين يتحملون العبء الأكبر، حيث يشكلون نسبة 49 في المائة من إجمالي الحالات المرضية المسجلة ونسبة 47 في المائة من حالات الوفاة.
وكانت الأمم المتحدة قد أكدت الاثنين الماضي بالقول “إن المجاعة قد انتشرت في ست مناطق من أصل ثماني مناطق في جنوب الصومال حيث يواجه 750 ألف شخص خطر الموت جوعا ويموت مئات الأشخاص يوميا رغم تكثيف مساعدات الإغاثة”. و أغلب الضحايا أطفال بنسبة تصل قرابة 53 بالمائة في بعض تلك الأقاليم الجائعة. ومند أن أعلنت الأمم المتحدة المجاعة في البلاد، التي مزقتها الحرب القذرة، في يوليوز يوجد أربعة ملايين صومالي أو 53 بالمائة من السكان غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائية.
وسبق لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة” الفاو” أن أعلنت أن 11 مليون شخص يواجهون خطر المجاعة في دول القرن الإفريقي الذي يحتاج إلى مساعدة غذائية عاجلة، وأن النقص الغذائي يتفاقم خصوصاً في الصومال، حيث يحتاج نحو مليوني شخص إلى مساعدة إنسانية، ويزداد الأمر تدهوراً في شمال وشرق كينيا وجنوب إثيوبيا وجيبوتي.
وبعيدا عن حديث الأرقام الجاف لا بد من معرفة أن الجوع بلغ بالصوماليين مبلغا لم يمنعهم من أن يأكل أحدهم لحم الميت من البشر لتخفيف وطأة الجوع إلا قيمه الدينية، وقد استفتي الشيخ يحيى المدغري، من طرف مسلم صومالي حول ما إذا كانت ظروف المجاعة والفاقة التي يعيشون عليها “تجيز” للصومالي المسلم أكل لحم أمه وأبيه وأخيه الميت! كما أكد ذلك في خطبة عيد الفطر الأخير بسلا.
وبالرجوع إلى سلوك التضامن عندنا نجد أننا نتحرك بحماس منقطع النضير لسقوط ضحايا في صراع سياسي أو حتى لاقتحام مبنى، مهما بلغت قدسيته ومهما بلغت دناسة مقتحميه، وهو سلوك جميل ونبيل ومطلوب تقويته وتشجيعه واستمراره، لكن لا نكاد نحرك ساكنا، ليس فقط مع ضحايا المجاعة في الصومال، بل حتى مع ضحايا الفقر والتهميش بجوارنا في المغرب!
تكشف هذه المفارقة الصادمة عن وجود خلل كبير في سلوك التضامن عندنا، ويثير سؤالا فاصلا: هل الحق في “الحياة السياسية” أولى من الحق في الحياة البيولوجية؟
لا يجب تأويل هذا السؤال المشروع بكون التضامن الإنساني يقتضي التخلي عن التضامن السياسي، ففي كلا الحالتين يتداخل ما هو سياسي وما هو إنساني بنسب متفاوتة، فالحالة الصومالية حالة إنسانية بالدرجة الأولى لكن يحضر فيها ما هو سياسي على اعتبار ما تعيش عليه البلاد من اقتتال منذ سنوات، وحالة الثورات العربية سياسية بالدرجة الأولى لكن البعد الإنساني حاضر فيها أيضا بقوة حين يتعلق الأمر بالقتل والاعتقال والتعسف، بل وحين يكون هدف الثورة رفع الظلم وتحسين ظروف العيش بما يتناسب مع الحياة الكريمة.
لكن، لماذا نثور ضد تقتيل محتجين بالرصاص ولا نتحرك حين يتعرض شعب للابادة بسبب شح لقمة العيش؟ أليس الهالك بالجوع ميتا كما الهالك بالرصاص؟ أليسوا كلهم بشرا؟ أليس الموت بالرصاص شرف تحيى به شعوب الشهداء والموت بالجوع مذلة وعار في جبين الأمة بأكملها؟
أين الخلل؟
لا يجادل أحد في كون قيم التضامن متجدرة فينا وأن حس التضامن مع جوعى الصومال وغيره حاضر أيضا فينا، لكن المثير في الظاهرة التي نناقشها هو في قوة التضامن الإنساني مع ضحايا التهميش والجوع، ودرجة شعبيته وحجمه وطبيعة الداعين إليه والمعبئين من أجله. فلا نجد أحزابا ولا جماعات إسلامية و لا جمعيات مجتمع مدني، القائمة والمستحدثة، ولا فتحت حسابات رسمية لجمع التبرعات، ولا جند متطوعون في العمل الإنساني من أطباء وممرضين وصحافيين وبرلمانيين لقيادة قوافل التضامن على غرار قوافل رفع الحصار على غزة مثلا… كل ما نجده دعاء و حولقة (قول لا حول ولا قوة إلا بالله) على الشبكة العنكبوتية، وأمام شاشة التلفزة، وحين تذكر كارثة الصومال في بعض المنتديات؟
لماذا؟ هل لأن الصوماليين لهم بشرة يختلف لونها عن لون بشرتنا؟ هل لأنهم، نسبيا، بعيدون جغرافيا عنا؟ هل لأنهم يتحدثون لغة غير لغتنا؟ هل رابطة الإنسانية والدين أقل من رابطة العرق واللغة والجغرافية؟ أليس الجوع يقتل بدون تمييز بين رضيع وامرأة وشيخ، خلاف الرصاص الذي يقتل من في الشارع؟ أليس حال حاويات الأزبال عندنا بأفضل، من حيث ما تحتويه من بقايا الطعام، مما تحت أيدي مئات الآلاف من الصوماليين؟ هل أصبنا في مقتل ضمائرنا؟
هل فكرنا في تخصيص قيمة وجبة واحدة من وجباتنا الغنية من أجل توفير ما يملأ بطن أطفال لا يجدون ما يطبقون عليه أضراسهم؟ هل الخلل في الشعوب، أم في مؤطري احتجاجات الشعوب و مؤطري حركة التضامن الشعبي من أحزاب وهيئات مدنية وغيرهما؟ هل الخلل فكري وتصوري يتعلق بتضخم السياسي على حساب الإنساني؟
هل فكرنا في تخصيص قيمة وجبة واحدة من وجباتنا الغنية من أجل توفير ما يملأ بطن أطفال لا يجدون ما يطبقون عليه أضراسهم؟ هل الخلل في الشعوب، أم في مؤطري احتجاجات الشعوب و مؤطري حركة التضامن الشعبي من أحزاب وهيئات مدنية وغيرهما؟ هل الخلل فكري وتصوري يتعلق بتضخم السياسي على حساب الإنساني؟
هل نخجل من أنفسنا حين تقصفنا القنوات التلفزية بصور الهياكل العظمية الملتوية داخل جلدها الملتصق بها، الغائرة أعينها وهي تديننا بنظراتها عبر الأثير؟ ألا يستحق الوضع في الصومال أن تعم الثورات كل البلدان الإسلامية ضد الأنظمة السياسية التي تتقاعس عن نجدة أرواح هؤلاء الضحايا؟
أين علماء الدين وفقهاء الأصول، أي شريعة في الأرض تجيز لشعوب أن تغرق في القروض بحثا عن الكماليات، مقابل شعوب تبيدها المجاعة وهم يعلمون؟ هل نحن معذورون دينيا وسياسيا وأخلاقيا وإنسانيا؟
هل حاولنا القيام بشي ولم نستطع؟
لقد آن الأوان أن نعيد لسلوك التضامن روحه الإنسانية، ونعطيه مضمونه الحقيقي الذي يجعلنا نتحرك من أجل الأمعاء المتضورة جوعا بنفس القوة أو أكثر مما نتحرك به ضد سفك الدماء أو تخريب بنيان أو تدنيس مقدس. إن المطلوب المستعجل اليوم هو إعادة التوازن لثقافة التضامن وسلوكها، فشهيد الرصاص ليس بأكثر أهمية من شهيد الأمعاء الخاوية، ومصرع صبي جوعا ليس أقل أهمية من تدنيس المصحف الكريم أو اقتحام المسجد الأقصى أو اقتحام “سفينة مرمرة” …
إن الهدف من معالجة موضوع التضامن من زاويته الإنسانية ومن خلال المقارنات التي قد تبدو صادمة ومن خلال الأسئلة التي قد تبدو قاسية، ليس فتح باب النقد السادي الذي يتلذذ بجلد الذات، ولكن لتسليط الضوء على زاوية قاتمة في سلوكنا التضامني الذي ينبغي أن ننميه ونرعاه ونحرره من المزايدات السياسية والأيديولوجية. فهل نتحرك من أجل إنسان القرن الإفريقي وخصوصا في الصومال كما تحركنا من قبل من أجل السياسة ومن أجل أمكنة، ومن أجل بنايات، ومن أجل أمور هي مقدسة وعظيمة و مهمة، لكنها أقل بكثير من موت طفل جوعا في أرض الإسلام، والمسلمون يعلمون ويستطيعون إنقاده.