آفاق بيئية : محمد التفراوتي
شهدت فعاليات الدورة الثانية عشر من المهرجان الدولي لأفلام البيئة بشفشاون خلال “ماستر كلاس” جماعي عرض فيلم وثائقي ” أرض العسل ” ( HONEYLAND). انطلق الفيلم مركزا على السيدة “خديجة” في جبال بمنطقة البلقان، وهي تجمع العسل بدون أي حماية أو قناع يحميها من لسعات النحل. مستأنسة مع مجتمع النحل بعفوية. تصدر أصواتا كأنها تحدث النحل بلغة خاصة. تتواصل معه وتنهل من خلاياه جزء ما يذره من عسل، لكسب عيش متواضع مع الحرص على ترك النصف. دون جشع. بعفوية تحفظ التوازن بين الانسان والطبيعة، وبشكل فطري وبإحساس دافئ. إنها إمراة غير عادية، خشنة، تسربت التجاعيد إلى محياها. لكن جنس الأنثى يسكنها، حيث ركز مشهد رقيق تفحص السيدة، بطلة الفيلم، صور نساء في علب التجميل بانجذاب خاص.
الفيلم هو قصة غير عادية. قصة بقاء وصمود وقدرة على التكيف، وكذا على التأقلم والحاجة الى احترام التوازنات الطبيعية. يحكي عن قصة امرأة قوية رفقة أمها المنهكة. تعيشان في هدوء وسكينة مع موارد المكان والمحيط بلطف. بطلة الفيلم تبيع بعض العسل في المدينة بضاحية مسكنها. وتشتري بعض مؤنها.
على حين غرة تكسر هدوء المكان بقدوم أسرة، متعددة الأفراد، لتقطن بالجوار. رب الأسرة رجل برغماتي، “راعي بقر”، نهم لا يفتر عن الاستهلاك دون إستدامة. لا يفتر عن إنهاك الموارد بفعل العوز والحاجة لكن دون تفكير في عواقب الآتي.
بداية تستأنس السيدة، خديجة، مع الأسرة وضجيجها. وتلاعب أطفالها وتصادق يافعيها. توجه النصائح عند تحصيل رب الاسرة للعسل بكثرة دون استدامة، بترديد لازمة “خذ النصف واترك النصف للنحل”.
بدأ يتسرب الأسى والقلق لدى السيدة خديجة. مشاهد الجشع وإنهاك الموارد يتزايد. وبيع ثم مقايضة العسل مع تجار خارج المحيط يتلاحق.. لكن الأسرة أو بالاحرى الأب غير آبه إلا بمردود مادي لا يبقي ولا يذر. تبحث عن سد خصاص مادي لمرحلة آنية دون استشراف للغد.
السيدة خديجة تبر والدتها المقعدة والمريضة، تخدمها بصدق وحنان. تراودها أحاسيس الأنثى بين الحين والآخر. تستخرج السعادة من عنق زجاجة ضنك وشظف العيش، بالقبلات مع أمها والغناء بصوت سجي.
وتستمر لازمة “خذ النصف واترك النصف للنحل” هذه المرة لأحد أبناء الأسرة التي نسجت معه علاقة خاصة. صادقته، ترى فيه الابن التي تتمنى أن يكون من صلبها. وفي جلسة صفاء خاص مع الطفل، يحضر سؤال الهجرة. يريد هجر المكان والبحث عن جودة عيش أفضل. تغيرت ملامح السيدة، بدا لها في الأفق الخلف والأسرة. وهي تقول” لو كان عندي ولد مثلك …”.
قلت الموارد واستنزف المكان. رب الأسرة مسترسل في تعقب خلايا النحل في كل الأمكنة أمام تزايد الطلب. بعدما باع محصول الذرة، يتوالى نهم استخراج العسل من خلية مدرارة للعسل في شجرة ضخمة، اغتصبها غدرا وقطع أوصالها ليغنم خشبها. ويأخذ العسل والشجر في استغلال سافر. في حين سبقته السيدة خديجة واستخرجت بعض العسل وفق قناعة «خذ النصف واترك النصف للنحل”، وبالطريقة الصائبة.
خيم الحزن على خديجة، فتشكو لأمها جفاف موارد العسل، المدخول الأساس لعيشهما. تجيبها الأم “تزوجي”. بدا للأم حل الزواج كبديل لمعاناتها. فتقول لها ابنتها “الله يسمعك”. وبعض تأمل قصير تقول لأمها، بصوت تخنقه العبرات، سآخذك بين ذراعي ونترك المكان. لقد دمروا جميع خلايا النحل.
لكن تتوالى على “راعي البقر”، رب الاسرة، المآسي من قبيل موت عجوله وتواصل مرارة الفاقة. لم يجد بدا من الرحيل بعدما دمر المنطقة واستنفد مواردها. غادر مع أسرته ومتاعه وأبقاره. وبقيت السيدة خديجة في حزن عميق، لكن مع إصرار على البقاء. تداعب قطتها وتغني لها.
وتوالت الأيام، ليحل فصل الشتاء. فتقسو الطبيعة وتزمجر ويعم البرد القارس. لا مناص إلا التكيف، لتحضر الموسيقى والتدفئة ورغبة الترويح عن النفس في مشاهد مؤنسة.
وتحل المأساة. موت الأم، السند المعنوي ومبرر الجلد والصبر. وتبقى السيدة خديجة على انفراد مع قطتها ومذياعها وكلبها. عيونها دامعة وقلبها منفطر، لكن تذوق الكلب لرشفة عسل انتزع منها ابتسامتها المشرقة وانفرجت أسارير وجهها نحو الأمل في غد أفضل.
يشار أن مدة الفيلم الوثائقي “أرض العسل” ( HONEYLAND ) ساعة ونصف. استغرق ثلاث سنوات من التصوير. تم إنتاجه في جبال البلقان، وهو من إخراج وسيناريو “تمارا كوتيفسكا” و”ليوبومير ستيفانوف” .الممثلون هم خديجة موراتوفا ، نظيفة موراتوفا ، حسين سام. ويعرض لأول مرة بالعالم العربي وبافريقيا .وقد حصلت إدارة المهرجان على ترخيص عرضه من الشركة المنتجة للفيلم. الفيلم حاصل على عدد كبير من الجوائز ومن أهمها 3 جوائز بمهرجان Sundance بالإضافة إلى ترشيحين لجائزة الأوسكار ليكون أول فيلم أجنبي يحصل على مثل هذه الترشيحات.
يذكر أن مشاهد الفيلم جميلة. لكن المخرج افتعل حريق تطايرت حمم لهيبه، ليعبر به عن فكرة أو رسالة ، لكن الفعل هو تلويث للبيئة.