كيف يحقق العرب الأمن الغذائي؟

محمد التفراوتي4 يونيو 2018آخر تحديث :
كيف يحقق العرب الأمن الغذائي؟

آفاق بيئية : نجيب صعب 

القضاء على الجوع كان الشغل الشاغل لوزراء الزراعة العرب، الذين التقوا في روما الشهر الماضي في المؤتمر الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو). روما كانت حائط المبكى، الذي ذرف عليه الوزراء دموعهم على تراجع إنتاج الغذاء وتدهور وضع الأمن الغذائي العربي. لكن كلام الوزراء كاد يخلو من أية إشارة إلى ماذا يمكن لبلدانهم أن تفعل لمعالجة هذا الوضع المتدهور، وكأنهم ينتظرون الفرج من مكان آخر.

في البيان الختامي، عبّر الوزراء عن قلقهم من تراجع مستويات الأمن الغذائي وتفاقم سوء التغذية في المنطقة، واضعين اللوم على استمرار الحروب والنزاعات وتغيّر المناخ وندرة المياه. ودعوا المنظمات الدولية إلى زيادة المساهمات، عن طريق الدعم التقني والمالي، لمعالجة الأوضاع المتدهورة. ومرّوا مروراً عابراً على تعزيز التعاون في ما بين الدول النامية نفسها.

صحيح أن المنطقة تعاني من ندرة المياه، التي تضاعِف حدّتَها آثار تغيّر المناخ. لكن ما لم يذكره البيان الوزاري أن السبب الرئيسي وراء المشكلة هو سوء إدارة الموارد، المتمثل في الهدر وانعدام الكفاءة وضعف الإنتاجية، والمعالجة تبدأ في الدول نفسها. عندئذٍ فقط يصبح للدعم الخارجي جدوى، من أجل الاستثمار في سياسات مستدامة بدل أن ينحصر في مساعدات ذات أثر عابر.

اعتراف البيان الوزاري بآثار تغيّر المناخ على إنتاج الغذاء يدعو إلى الرضى، ويعبّر عن تبدّل إيجابي كبير في مواقف المسؤولين العرب من الموضوع. ونذكر أنه حين أصدر المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عام 2009 تقريره عن أثر تغيّر المناخ على البلدان العربية، قوبلت نتائجه بكثير من الشكوك. فقد اعتبرها بعضهم مجرد مبالغات لإثارة المخاوف، حين أكدت أن البلدان العربية هي بين مناطق العالم الأكثر تأثراً بتغيّر المناخ، خاصة في مجال انخفاض كميات المياه العذبة والجفاف وارتفاع مستويات البحار وملوحة المياه الجوفية، وكلها تضرب الإنتاج الغذائي.

ورأى آخرون حينذاك أن ما دعا إليه تقرير “أفد” من ضرورة مساهمة البلدان العربية في المساعي الدولية لمواجهة تغيّر المناخ، ومن بين متطلباتها تعزيز كفاءة الطاقة وتوسيع استخدامات الطاقة المتجددة لخفض الانبعاثات، مؤامرة على الدول المصدرة للنفط. لذلك فإقرار الوزراء بالأمر اليوم هو بمثابة موسيقى في آذاننا. لكن الخطر أن يستخدم المسؤولون قضية تغيّر المناخ على نحو انتقائي، لتبرير تقصيرهم في وضع سياسات تقوم على إدارة رشيدة للموارد.

من الأمثلة على سوء الإدارة أن كفاءة الري في 19 بلداً عربياً تقل عن 46 في المئة. ووفق تقارير “أفد”، فإن رفع هذا الرقم إلى 70 في المئة كفيل بتوفير 50 بليون متر مكعب من المياه سنوياً. وفيما يُقدَّر أن الري المطلوب لكل طن من الحبوب يبلغ 1500 متر مكعب، يمكن للكمية الموفَّرة من المياه أن تكفي لإنتاج أكثر من 30 مليون طن من الحبوب. وهذا يوازي 45 في المئة من واردات الحبوب، التي تتجاوز قيمتها 11.25 بليون دولار.

ولا شكّ أن إنتاج مزيد من المحاصيل الزراعية بمياه أقل يُعتبر خياراً مهماً لتعزيز الأمن الغذائي في البلدان التي تعاني ندرة في المياه. وبالإضافة إلى زيادة كفاءة الري، يمكن رفع إنتاجية المياه من خلال تخصيص المياه لمحاصيل أعلى قيمة. ولا بد من زيادة كمية مياه الصرف المعالجة، من 48 في المئة حالياً إلى ما لا يقل عن 90 في المئة، واستغلالها لأهداف الري.

اجتماع “الفاو” الإقليمي الأخير شدّد على ضرورة زيادة إنتاج الغذاء واستيراده لسد الحاجات، لكنه لم يعطِ الاهتمام الكافي لتغيير أنماط الاستهلاك. فتبديل أنواع الطعام هو أحد الأساليب الفعالة لتحسين الأمن الغذائي. لقد دعونا دائماً إلى مباشرة إبدال المنتجات الزراعية التي تتطلب كميات كبيرة من المياه بمنتجات بديلة تعطي القيمة الغذائية نفسها وتستهلك مياهاً أقل لإنتاجها. وأعطينا زراعة الأرز في مصر كمثل على هذا، إذ إنه لن يكون ممكناً بالموارد المائية المتاحة الاستمرار في إنتاج ما يكفي من الأرز لإطعام الأعداد المتزايدة من السكان في مصر، والمقدّر أن يتضاعفوا من مئة مليون اليوم إلى أكثر من 200 مليون خلال 50 سنة. لكن يبدو أن الحكومة المصرية بدأت تعترف بالمشكلة، إذ قررت هذه السنة، للمرة الأولى، خفضاً، ولو بسيطاً، في مساحات الأراضي المخصصة لزراعة الأرز.

ومن النماذج الممكنة لتبديل أنماط الاستهلاك الغذائي تشجيع الانتاج والاستهلك في مجال الأسماك والحبوب الكاملة الغنية بالألياف، وخفض استهلاك الحبوب المصنّعة واللحوم الحمراء، التي يشكل إنتاجها ضغطاً على البيئة، ويضر الإفراط في استهلاكها بالصحة البشرية. وكانت تقارير صدرت عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية أثبتت إمكان زيادة الإنتاج السمكي أضعافاً في المنطقة العربية، بما يخدم الأمن الغذائي والصحي على السواء.

هناك من يعتبر أن الإكتفاء الغذائي الذاتي في المنطقة العربية نوع من الاستحالة. وإذا كان هذا صحيحاً على المستوى المحلي في بعض البلدان، فقد وجدت تقارير أخرى أنه يمكن تحسين مستويات الاكتفاء الذاتي بدرجات عالية وتحقيق الأمن الغذائي، خصوصاً عبر تعزيز التعاون بين البلدان العربية في إمكانات إنتاج الغذاء، بالاستفادة من الميزات التفاضلية. ولا بد أن يحصل هذا بالتوازي مع رفع الإنتاجية، وتقليل الهدر، وتعديل الأنماط الاستهلاكية. فتوافر الإمكانات المالية لاستيراد الغذاء قد يحلّ بعض المشكلة في الدول الغنية، لكنه لا يشكل حلاً في الدول ذات الموارد المالية المحدودة. وفي حين يتفق الخبراء على أن الاعتماد على استيراد الغذاء ضروري في المدى القصير لحل مشاكل عاجلة، لكنه لا يشكل حلاً مستداماً في المدى الطويل.

إلا أن تحسين ذلك الجانب من الأمن الغذائي المتعلق بالاكتفاء الذاتي يتطلب مقاربة إقليمية متكاملة وشاملة للجميع، تقرّ بالعلاقة المتلازمة بين الغذاء والماء والطاقة، ونموذجاً جديداً للاستدامة الزراعية يعتمد على اعتبارات اقتصادية واجتماعية وبيئية. ومن ضمن هذا الإطار، يمكن تحديد عدد من الخيارات لتحسين نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي، خصوصاً من خلال الاستخدام الفاعل للموارد الزراعية المتوافرة، إضافة إلى موارد الثروتين الحيوانية والسمكية.

قد يبدو ما نقترحه غير واقعي، وفي أفضل الحالات مغالياً في التفاؤل، في منطقة تمر عبر مخاض وجودي عسير. غير أنه بعد كل الحروب والنزاعات، سيبقى سكان المنطقة بحاجة إلى موارد كافية ليأكلوا ويشربوا ويتنفسوا. ومن أجل تحقيق نوعية حياة جيدة ومستدامة لجميع سكان المنطقة، يجب اعتماد آليات للتكامل الاقتصادي الإقليمي وتشريع الأبواب أمام التبادل التجاري العربي، حيث يجلب الانتقال الحر للمنتجات الزراعية والبضائع والرساميل والبشر منافع جمة لكل البلدان.

(يُنشر بالاتفاق مع مجلة البيئة والتنمية)

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!