آفاق بيئية: محمد التفراوتي
كلما أظلت الدنيا ذكرى مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أجد نفسي أعود كلما استحضرت سيرته الطاهرة إلى مشاهدة فيلم الرسالة، أو بين سطور كتب السيرة العطرة. أسترجع ملامح حياة مضيئة لقائد أمتنا، مواقفه النبيلة، وما قدّمه للبشرية وللكوكب الأرضي من هدي وتوجيهات جليلة وجوهرية.”
حياة كانت كل محطة فيها رحمة، وكل لحظة منها درس خالد، يربط بين العبادة والإنسان، وبين الإنسان والكون من حوله، في انسجام بديع يسبق بأزمان بعيدة ما نطلق عليه اليوم “الوعي البيئي”.
لقد تجلت عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في نظرته الشمولية للوجود، حيث لم يقتصر عطاؤه على توجيه الإنسان في عبادته ومعاملاته، بل أسس أيضا لوعي بيئي متكامل، يجعل حماية موارد الأرض وصيانة الحياة بكل صورها جزء من العبادة.
الماء مورد مقدس
اعتبر صلى الله عليه وسلم الماء أقدس مورد للحياة، فنهى عن الإسراف فيه ولو في العبادة، إذ قال لسعد رضي الله عنه حين رآه يكثر من الماء في الوضوء: «ما هذا السرف يا سعد؟» قال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار».
إنها رسالة مبكرة بضرورة ترشيد الموارد المائية وحسن تدبيرها.
التشجير والزراعة صدقة جارية
ربط صلى الله عليه وسلم العمل الزراعي بالثواب، فجعل الغرس والزرع صدقة ممتدة الأجر، فقال: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له به صدقة». بل إنه حث على الزراعة حتى في لحظة النهاية: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها».
رسالة واضحة أن إعمار الأرض قيمة ثابتة لا تتوقف.
حماية الحياة البرية والتنوع الحيوي
أوصى صلى الله عليه وسلم بالرفق بالحيوان، ونهى عن قتله عبثا، فقال: «من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأله الله عنها يوم القيامة». كما نهى عن تحميل الدواب ما لا تطيق، وأمر بإراحة البهائم.
ومن أجمل لطائفه صلى الله عليه وسلم وتواصله مع الطير، كأن أم الفراخ كانت تهمس له شاكية، وذلك حين كان في سفر مع بعض أصحابه فأخذوا فرخي طائر صغير من عشه (وفي بعض الروايات: فرخي حمرة). فجاءت أمهما ترفرف فوق رؤوس القوم جزعا على فراخها، فلما رأى صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها». فأمر برد الفرخين إلى أمهما رحمة بها. مشهد يجسد رقة قلبه صلى الله عليه وسلم ووعيه البيئي الذي لم يقتصر على الإنسان، بل شمل أصغر الكائنات، حتى الطير في عشه.
المحميات الطبيعية في الإسلام
أرسى صلى الله عليه وسلم نظام الحمى، وهو تخصيص أراض كمراعي محمية لا يعتدى عليها ولا تستنزف مواردها. وهذه الفكرة تشبه تماما ما يعرف اليوم بـ”المحميات الطبيعية”، حماية للتوازن البيئي والموارد الحيوية.
علاقة وجدانية بالطبيعة
لم تكن الطبيعة عند النبي مجرد عناصر مادية، بل شريكا روحيا. فقد قال عن جبل أحد: «أحد جبل يحبنا ونحبه». كما بكى جذع النخلة حين فارقه النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب على المنبر، فاحتضنه فسكن أنينه. إشارات مؤثرة إلى أن الكون كله يتفاعل مع رسالته الرحيمة.
رسالة خالدة
تجمع هذه المواقف لتؤكد أن الإسلام سبق المفاهيم البيئية الحديثة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع لبنات الوعي البيئي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، حيث جعل حماية الأرض والماء والزرع والحيوان عبادة وقربة إلى الله، ليبقى رسول الرحمة قدوة في رعاية الحياة بكل صورها.