وسائل النقل تطلق 23 في المئة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري المرتبطة بالطاقة
آفاق بيئية : عبدالهادي النجّار
تواجه المدن ضغوطاً هائلة في سعيها لمواجهة تحديات النقل اليومية. ومع التوسع الحضري السريع وتداعي البنى التحتية وزيادة أعداد السكان وتغير المناخ، تصبح هذه التحديات أكثر صعوبة، وتستلزم اتخاذ خطوات جريئة لتطوير أنظمة النقل وتنويعها بهدف تأمين استدامتها، ومنح المدن ميزات إضافية على مستوى الإنتاجية والجاذبية ونوعية الحياة.
لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً حول مفهوم النقل المستدام، ولكنه يشير إلى توفير الخدمات والبنى التحتية لحركة الأفراد والبضائع من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمنفعة الأجيال الحالية والمستقبلية بطريقة آمنة، ميسورة التكلفة، سهلة المنال، تتسم بالكفاءة والمرونة، مع التقليل من الانبعاثات والآثار البيئية الأخرى.
مؤشرات مقلقة
اعترفت الأمم المتحدة بدور النقل في تحقيق التنمية المستدامة خلال مناقشات قمة الأرض 1992، وأدرجت ذلك في الوثيقة الختامية لخطة عمل القرن الحادي والعشرين. وفي آب (أغسطس) 2012، أنشأ الأمين العام للأمم المتحدة فريقاً استشارياً رفيع المستوى حول النقل المستدام يمثل جميع وسائل النقل، بما فيها شركات النقل البري والسكك الحديدية والطيران والنقل البحري والنهري والنقل العام في المناطق الحضرية.
وقدم الفريق توصياته في تقرير “آفاق النقل المستدام من أجل التنمية”، الذي صدر خلال المؤتمر العالمي الأول للنقل المستدام في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016. وتضمن التقرير مجموعة من المعطيات الصادمة حول واقع النقل حالياً. فبحسب التقديرات يوجد نحو 450 مليون شخص في أفريقيا، أو أكثر من 70 في المئة من سكان الريف، غير متصلين بشبكات النقل ولا يحظون بوسائط للنقل.
كما يوجد خلل عميق في كفاءة سلاسل التوريد. فنقل حاوية أفوكادو من كينيا إلى هولندا على سبيل المثال يتطلب 200 إجراء تدخلي وأكثر من 20 وثيقة بكلفة مساوية لكلفة الشحن. ومن شأن حل هذه المشكلة زيادة دخل المزارعين بنسبة تراوح بين 10 و100 في المئة.
ومن ناحية السلامة العامة، يموت نحو 1.3 مليون شخص على الطرق في العالم سنوياً، ويتعرض عشرات الملايين لإصابات خطيرة. وتعد حوادث المرور السبب الرئيسي للوفاة في أوساط الشباب ضمن الفئة العمرية بين 15 و29 سنة. كما ينبعث عن وسائل النقل 23 في المئة من مجمل الغازات المسببة للاحتباس الحراري المرتبطة بالطاقة، ويمكن أن تصل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناتجة عنها حتى 40 في المئة بحلول سنة 2040.
وتعد هذه المؤشرات مدعاة قلق، نظراً لأن النقل المستدام أمر بالغ الأهمية للوصول إلى غايات أجندة التنمية المستدامة لعام 2030 وتحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة، إن لم يكن جميعها، مثل خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري (الهدف 13)، وتحقيق الأمن الغذائي (الهدف 2)، وتعزيز الحصول على خدمات الرعاية الصحية (الهدف 3). ومن الضروري أيضاً وجود قطاع نقل مستدام لزيادة إمكانية وصول الشباب إلى المدارس (الهدف 4) وضمان إتاحة فرص العمل للنساء وتمكينهم (الهدف 5).
أهداف متعارضة
أشار تقرير الأمم المتحدة إلى أن الانتقال إلى نظام نقل أكثر استدامة يشمل الموانئ المتكاملة والمطارات المخططة جيداً، وتنسيق لوائح المعابر الحدودية بكفاءة، ما يمكن أن يؤدي الى زيادة إجمالي الناتج العالمي بنحو 2.6 تريليون دولار. وتشمل مكاسب النقل المستدام الوفورات في الوقود وتكاليف التشغيل، وتناقص الاختناقات المرورية، وتقليل تلوث الهواء، وخلق فرص عمل جديدة، والمساهمة في خفض الفقر، ومكافحة التغير المناخي.
ومن أجل تحقيق هذه المكاسب يجب التفكير من جديد في صناعة النقل، وتحديد ما سيكون عليه حال النقل المستدام في المستقبل. ينبغي أن تكون شبكات النقل فعالة ومتاحة للجميع بكلفة ميسورة وتدعم عملية نمو مستدام يشمل الجميع بثماره، وذلك من خلال ربط المناطق الريفية والحضرية في كل بلد، وربط الفقراء والمحرومين.
ويجب أن تشمل فوائد حلول النقل الحديثة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة، بما يؤدي إلى إتاحة الوصول إلى أسواق جديدة، والتعليم، والخدمات الصحية، وغيرها من الفرص. كما ينبغي أن تكون شبكات النقل قادرة على الصمود أمام مختلف الصدمات، بما فيها آثار تغير المناخ، من أجل تعزيز قدرة اقتصاد مختلف البلدان على التحمل.
لكن إدارة هذا التحول في قطاع النقل تتطلب التغلب على تحديات متعددة، غالباً ما تكون متناقضة. فعلى سبيل المثال، يتطلب تشجيع الناس على السير أو ركوب الدراجات للوصول إلى أماكن العمل توفير بنية تحتية آمنة لراكبي الدراجات والمشاة تتضمن تخصيص مسارب منفصلة عن حركة المركبات، أو اتخاذ الترتيبات اللازمة لتخفيض سرعة السيارات. وفي الحالتين، سيؤثر ذلك على كفاءة النقل وتقييد الحركة.
وبالمثل، قد تتعارض تدابير تقليل التلوث في بعض الأحيان مع تلك المطلوبة للحد من حوادث السير. عند زيادة متوسط سرعة السيارات ينخفض تلوث الهواء، إلا أن السرعات المرتفعة ستؤدي إلى زيادة في معدلات حوادث السير. وتتباين سياسات الدول حول هذا الأمر، وأكثرها يسعى لخفض تلوث الهواء باعتباره مشكلة عامة واضحة المعالم، في حين تنسب الإصابات والوفيات في الحوادث إلى الأخطاء الفردية. لذلك غالباً ما تتناول سياسات تنمية المدن مشاكل تلوث الهواء وخيارات الحد منها، وقلما يجري الحديث عن التحكم بحوادث السير.
زمن القفزات الواسعة
أمام صعوبة الوصول إلى سياسة للنقل المستدام تكون سهلة المنال للجميع وآمنة وكفوءة ومراعية للبيئة، يبدو أن التكنولوجيا ستكون العامل الحاسم في تحقيق قفزات واسعة باتجاه هذا الهدف. أنظمة النقل في المستقبل ستكون أكثر تشابكاً، تعمل على الكهرباء وذاتية الحركة وتشاركية الاستخدام، ومدفوعة ببيانات الكومبيوتر الرقمية.
من المتوقع في سنة 2040 أن تكون 40 في المئة من مبيعات السيارات الجديدة هي لسيارات كهربائية، وبحلول هذه السنة أيضاً ستشكل السيارات ذاتية القيادة 25 في المئة من مجمل السوق العالمية. وتتعاون اليابان حالياً مع عدد من الشركات لإطلاق خدمة سيارات الأجرة الطائرة في العقد القادم، علما أن دبي شهدت تجارب على هذا النوع من السيارات خلال السنة الماضية.
وفي سنة 2020، من المرجح أن تصبح طائرات الشحن المسيّرة عن بعد (درون) أكثر جدوى من استخدام الدراجات النارية لتوصيل الطرود. وفي السنة التالية، ستكون هناك ثلاثة أنظمة للقطارات النفقية فائقة السرعة (هايبرلوب) قيد التشغيل. وتعمل العديد من الدول حالياً على تنفيذ شبكة قطارات ممغنطة معلقة تصل سرعتها إلى 600 كيلومتر في الساعة. ويجري تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني لتبسيط إجراءات تصدير الشحن، وتقليل أوقات معالجة ومناولة المستندات الرئيسية، وزيادة الكفاءة والموثوقية.
مع ذلك، تنطوي هذه التقنيات الثورية على آثار سلبية تطال أنظمة النقل واستخدامات الأراضي، ما سيخلق تحديات للمدن غير مسبوقة. فحلول النقل الجديدة التي لا يقيدها المكان ستقلل من جاذبية بناء المدن الصغيرة، حيث يعيش الناس بالقرب من الوظائف والخدمات، وسيمهد ذلك الطريق لمزيد من التوسع الحضري الممتد أفقياً وما يستلزمه من بنى تحتية جديدة.
ومن ناحية أخرى، سيكون أمان التقنيات الجديدة، مثل السيارات الذاتية القيادة، مصدر قلق دائم. ومثل أي تقنية أخرى تدعمها التكنولوجيا الرقمية، ستكون أنظمة النقل الذكية والمتشابكة عرضة للهجمات الإلكترونية واختراق الخصوصية. وستدفع هذه التقنيات إدارات المدن ومصانع السيارات إلى إعادة تحديد أولوياتها من أجل تعويض تراجع الإيرادات نتيجة تناقص أعداد السيارات الخاصة.
لا توجد مدينتان متماثلتان في العالم، وهذا لا يحول دون أن تتعلم كل مدينة من نجاح وفشل المدن الأخرى في سعيها لتحقيق الاستدامة. وفيما يندفع الابتكار في تقنيات النقل بسرعة تفوق التوقعات، يجب على المدن أن تبقى مستعدة، تخطط للمستقبل، وتعمل دائماً للإفادة من كل جديد تظهره الأيام.
(يُنشر بالاتفاق مع مجلة “البيئة والتنمية”)