آفاق بيئية محمد التفراوتي
يتحول البحر المتوسط، في ظل زمن تتقاطع فيه الأزمات البيئية مع التحولات الاجتماعية العميقة، من فضاء للحوار والتنوع إلى مسرح مفتوح للهشاشة والتوترات. بالضفة المتوسطية يتلاقى الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب، تتكثف تحديات غير مسبوقة تهدد السواحل المتوسطية، بما تحمله من حياة، وذاكرة، وموارد، وآمال.
خلد برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يوم 25 شتنبر احتفالية توعوية، عبر مركز الأنشطة الإقليمية لبرنامج الإجراءات ذات الأولوية (PAP/RAC)، تحت شعار: “إلهام التأثير: مؤسسات البحر المتوسط من أجل مرونة السواحل“، مشكلا محطة محورية لإعادة التفكير في مستقبل البحر المتوسط وسواحله، في ظل ما يواجهه من اختلالات بيئية متسارعة تهدد أسس الاستقرار البيئي والاجتماعي والسياسي في كامل الحوض.
المتوسط على حافة الانفجار الإيكولوجي
وبات من نافلة القول أن السواحل المتوسطية لا يمكن ندرجها ضمن اهتمامات “الترف البيئي”، بل أضحت يدخل في صلب معادلة الأمن القومي والجهوي للدول المطلة على هذا البحر، الذي يسخن بمعدل يفوق المعدل العالمي بـ20 في المائة. فالسواحل، اليوم، لم تعد فقط واجهات بحرية بل تحولت إلى خطوط مواجهة أمامية ضد أزمات مركبة ومتقاطعة من قبيل تغير المناخ ، الضغط سكاني، تدهور النظم البيئية، الهشاشة ، وتفاوتات صارخة في التنمية.

سواحل تحت الحصار: التوسع، التلوث، والهشاشة المتفاقمة
يمثل التوسع العمراني الفوضوي، والسياحة الكتلية غير المسؤولة، والتدمير التدريجي للموائل الطبيعية، عوامل ضاغطة على التوازن الدقيق الذي لطالما ميز المنظومة الساحلية المتوسطية. وتزيد المخلفات الصناعية والبلاستيكية والمياه العادمة من حدة التدهور، مهددة التنوع البيولوجي ومستقبل الأجيال. وتبدو معظم المدن الساحلية الكبرى غير مهيأة لمواجهة الارتفاع المتوقع لمستوى البحر بـ 40 سم بحلول 2050، وهو ارتفاع كاف لابتلاع مساحات ساحلية بأكملها، خصوصا في دلتاوات الأنهار والمناطق المنخفضة.
الخطة الزرقاء 2050″: قراءة في شيفرة الإنذار المبكر
يعتبر تقرير “الخطة الزرقاء 2050” بمثابة وثيقة استراتيجية وتحذيرية ترسم معالم الكارثة إذا لم تتخذ خطوات ملموسة وحازمة. ارتفاع الحرارة بمقدار 2.3 درجة، تراجع الإنتاج الزراعي بـ17 في المائة ، انخفاض التنوع البيولوجي بنسبة 20 في المائة ، وضغط مائي شامل، كل هذه المؤشرات تتجمع في مشهد من الانكشاف الجماعي الذي ينذر بتحولات عنيفة في بنية المجتمعات المتوسطية.
لا يتعلق الأمر فقط بنضوب الموارد، بل بتهديد النسيج المجتمعي والهوياتي للمنطقة، إذ ترتبط هذه المؤشرات مباشرة بأمن الشعوب الغذائي والمائي، باستقرارها السياسي، وحتى بقدرتها على حماية تراثها الثقافي الممتد لآلاف السنين.
المتوسط.. من “بحر الأزمات” إلى “مختبر الحلول“
ورغم الصورة القاتمة، لا يزال البحر المتوسط يمثل مختبرا حيا للحوكمة البيئية المبتكرة. فاعتماد بروتوكول الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية (ICZM) سنة 2008، كأول أداة قانونية دولية ملزمة لحماية السواحل، شكل نقطة تحول في المنظور القانوني والعملي للتدخلات الساحلية. كما أن التطور في التخطيط المكاني البحري (MSP) بات يتيح أفقا لتجاوز المقاربات القطاعية الضيقة، نحو سياسات تنموية مندمجة، تراعي التوازن بين الحماية والاستغلال، بين الحاضر والمستقبل.
المؤسسات والمجتمع: نحو عقد جديد من التعبئة الجماعية
التجارب الميدانية في المغرب ، وكرواتيا، واليونان، وتونس والجزائر ، تؤكد أن التغيير ممكن حين تلتقي الإرادة السياسية بالإبداع المحلي والعمل المدني. فالتأهيل الإيكولوجي للمناطق المتدهورة، وتنمية الاقتصاد الأزرق الاجتماعي، والرهان على الطاقات المتجددة البحرية، تمثل مجالات واعدة لبناء نموذج تنموي متوسطي بديل، أكثر عدلا ومرونة.
مناخ الهجرة والجفاف… مؤشر على أزمة بنيوية
مع التوقعات بوصول عدد سكان المنطقة إلى 690 مليون نسمة بحلول 2050، فإن الضغط على المدن الساحلية مرشح للارتفاع، خاصة بفعل الهجرات المناخية القادمة من الداخل القاري (الجفاف، التصحر، تدهور الأراضي الزراعية…). وهو ما يستدعي ليس فقط تدخلات طارئة، بل إعادة صياغة السياسات الترابية والتهيئة المجالية بما يضمن احتواء هذه الديناميات السكانية والبيئية.
تكمن التحديات الكبرى في التفاوت الهيكلي بين شمال وجنوب المتوسط، من حيث الإمكانات والموارد، وهو ما يجعل العدالة البيئية محورا لا غنى عنه في أي نقاش إقليمي. فالتقاسم العادل للأعباء والموارد، وبناء شراكات استراتيجية، يمثلان صمام أمان لمنع تحول المنطقة إلى مسرح مفتوح للاضطرابات المناخية والاجتماعية.
نداء لضمير متوسطي مشترك
إن يوم الساحل المتوسطي 2025 ليس تظاهرة عابرة، بل جرس إنذار مدو يذكرنا بأن الزمن لم يعد في صالح التردد. فإما أن نغتنم هذه اللحظة لصياغة عقد متوسطــي جديد يقوم على الحوكمة البيئية، العدالة المناخية، والمسؤولية الجماعية، أو نترك مصير هذا الفضاء الجغرافي، الذي شكل مهدا للحضارات، لمصير الانهيار التدريجي. الرهان، إذن، ليس على البيئة فحسب، بل على استدامة الوجود المتوسطــي نفسه، حضاريا، وثقافيا، واجتماعيا.