النهر الذي يجمع الأرض والإنسان: قصة حمو العمراني

محمد التفراوتي22 سبتمبر 2025آخر تحديث :
النهر الذي يجمع الأرض والإنسان: قصة حمو العمراني

من جبال تيمحضيت إلى العالم، رحلة العلم والإنسانية

آفاق بيئية: محمد التفراوتي

في أعالي الأطلس المتوسط، في بلدة صغيرة اسمها “تيمحضيت”، ولد حمو العمراني. بين جبال تكتسي بالثلوج شتاء وحقول تزدهر ربيعا، بدأ وعيه بالعالم. الطبيعة كانت بالنسبة له مدرسة والإنسان محور كل معرفة منذ نعومة أظافره. كان يرى في كل جدول ماء وعدا بالحياة وفي كل شجرة درسا في الصبر والثبات. هذه البيئة زرعت فيه بذور شغف بلا حدود حب العلم والطبيعة وخدمة الإنسان قبل أي شيء آخر.
رجل ينتمي إلى جيل كان يقرأ على ضوء الشمعة وضوء القمر. جيل كان يبذل جهدا مضنيا للحصول على المعلومة. لم يكن متاح مجرد الضغط على زر جهاز لتتدفق المعارف. بل شح المعلومة صقل فضوله وصبره وعمق تفكيره، وعلمته قيمة الاجتهاد والمثابرة في كل خطوة من حياته، حيث تعلم منذ نعومة أظافره أن الأرض هي الأم. وأن الماء هو الحياة وأن لكل شجرة، وكل نهر قصة تستحق أن تروى.

من هنا بدأت رحلته مع الطبيعة والإنسان معا. رحلة ستقوده لاحقا إلى كل ركن من أركان العالم العربي والإفريقي، حاملا رسالة واحدة أن العلم يجب أن يخدم الإنسان. وأن الإنسان مسؤول عن الأرض التي يعيش عليها.
كبرت شخصيته لكن الطفولة بقيت حاضرة في تصرفاته ومهاراته. وعندما شاهدته في إحدى المؤتمرات ،بالقاهرة سنة 2010، يدير جلسة جمعت أحد عشر وزيرا من الدول العربية في مجال المياه في سياق مشروع “وادي مينا” الذي كان منسقه في مصر، رأيت عيون الوزراء مشدوهة بنجاحه وحنكته في توجيه السياسات العمومية في تدبير الطلب على المياه.

وأشهد بيني وبين نفسي أنني رأيته يدير جلسة جمعت أحد عشر وزيرا من الدول العربية في مجال المياه في سباق مشروع وادي مينا وكانت عيون الوزراء مشدوهة بإدارته الرصينة ونباهته وقدرته على توجيه السياسات العمومية في تدبير الطلب على المياه بأسلوب دقيق ومقنع وفي تلك اللحظة نفسها رأيته بين ذراعي والدته كطفل صغير براءة وحنان يختلطان مع عظمة ومسؤولية رجل صار رمزا للإبداع والمهنية كانت عيون والدته مشرقة تحدق فيه بفخر وطلبت مني أن أدعو له وقالت أمامي مرضي كي يشهد العالم كله أن له شهادة رضا والديه ولا يزال طنين صوتها يرن في الأذن وهي تردد “حمو الله يرضى عليه”.

وفي نفس لحظة أخرى أتذكر حين رأيته بين ذراعي والدته كطفل صغير وكانت عيني والدته مشرقة تحدق في ابنها بحب وفخر وطلبت منها، أنداك، أن تدعو له وتصرح أمامي أنه “مرضي” كي يشهد العالم برضا والديه ولا يزال طنين صوت والدته المرحومة يرن في أذني “حمو الله يرضى عليه…مرضي” وقد تواصلت مرة مع والده حدثته عن لقائي حمو بالقاهرة وعن توهجه المهني، فخاطبني بعبارات بسيطة تحمل معنى الواجب. دون تباه وكأن العظمة الحقيقية في صمت الرجل البسيط الذي يزرع حب الوطن والإنسانية والقيم عبر سلوك يومي متواضع لا يطلب ضجيجا ولا يبحث عن شهرة عندها أدركت أن هذه القامة العلمية لا تقاس بما أنجزته دوليا فقط بل بما تركته في القلوب وفي الأسرة وفي المجتمعات التي مرت بها.

في المغرب في أروقة الجامعات بدأ ينسج معرفته النظرية بأسلوب عملي فدرس العلوم الطبيعية ثم تخصص في الإيكولوجيا الحيوانية والبيئة والصحة قبل أن يسافر إلى كوبنهاغن ليحصل على الدكتوراه عميقا في فهم النظم البيئية والعلاقة بين التنمية والرفاهية البشرية وهو في كل خطوة يحمل قلبه متواضعا متطلعا إلى أن تجعل المعرفة فرقا حقيقيا في حياة الناس حمل معه القيم التي غرستها فيه بيئته وأهله التواضع والخلق الرفيع والإيمان بأن المعرفة لا تكتمل إلا إذا خدمت الإنسان ومن هنا بدأت رحلته التي امتزج فيها الفكر بالعمل والبحث بالإنسانية والعلوم بالرحمة.
درس في ثانوية الإمام الغزالي بمكناس حيث حصل على بكالوريا العلوم التجريبية ثم واصل تحصيله في جامعة فاس ونال الإجازة في العلوم الطبيعية تلاه شهادة الدراسات المعمقة في الإيكولوجيا الحيوانية في كلية العلوم والمعهد الزراعي بالرباط قبل أن يحصل على دكتوراه السلك الثالث في البيئة والصحة من كلية العلوم والمعهد الزراعي والحيواني بجامعة الحسن الثاني ثم أكمل دراساته بالدكتوراه في علوم البيئة والتنمية من جامعة كوبنهاغن وأضاف إلى مساره الأكاديمي دورات تدريبية متقدمة في السياسات العامة والإحصاء والبحث العلمي والتقييم باستخدام الخرائط النوعية ليجمع بين النظرية والتطبيق الميداني
يتقن الأمازيغية اللغة الأم والعربية والفرنسية والإنجليزية بطلاقة إضافة إلى الإسبانية والروسية على مستوى مبتدئ مما جعله جسرا بين ثقافات متعددة وقادرا على التواصل مع فرق ومجتمعات متنوعة في كل بقعة عمل فيها.

غانا إدارة المياه وصحة النظم الإيكولوجية

بدأ رحلته المهنية في غانا في مكتب المعهد الدولي لإدارة المياه الكندي حيث لم يكن مكتبه مجرد مكان للعمل بل ميدانا مفتوحا تعامل فيه مباشرة مع المزارعين والباحثين مطبقا حلولا علمية تحمي الأرض وتخدم الإنسان تعلم منهم بقدر ما علمهم وأكد أن المياه ليست مجرد مورد اقتصادي بل حق إنساني وأساس للعدالة ترك بصمة إفريقية في كيفية المزج بين العلم والعدالة الاجتماعية.

مصر الأمن الغذائي والتكيف مع التغير المناخي

ثم حملته الرحلة إلى مصر ليعمل مسؤول برامج أول في المركز الدولي للبحوث للتنمية حيث قاد مشاريع ضخمة في الأمن الغذائي والزراعة المستدامة وأسس شبكات معرفية وإقليمية جمعت خبراء من عشر دول عربية لتبادل الخبرات والحلول العملية من الأردن ولبنان إلى تونس والمغرب لم يكن مجرد مخطط بل كان دائما في الميدان يستمع للناس ويحول المعرفة العلمية إلى حلول ملموسة لتحسين حياة المجتمعات المحلية خاصة في مواجهة التغير المناخي قاد مشاريع بارزة مثل شبكة تبادل المعرفة في المناطق الريفية (KariaNet ) التي شملت عشرة دول عربية ونموذج إدارة الغابات في سلاسل الأطلس بالمغرب والجزائر وتونس والمبادرة الإقليمية لإدارة الطلب على المياه التي شملت ثماني دول عربية بالإضافة إلى مشاريع التكيف مع التغير المناخي وإدارة الموارد الطبيعية في المغرب والجزائر ولبنان وفلسطين وسوريا واليمن لم يقتصر عمله على التخطيط بل كان في الميدان دائما يستمع للناس ويترجم المعرفة العلمية إلى حلول يومية ملموسة مثل تحسين إدارة الموارد المائية ودعم المزارعين والمجتمعات المحلية في مواجهة التغير المناخي.

لبنان الريادة الإقليمية والبعد الإنساني

وصلت رحلته إلى لبنان. مكتب صغير في الطابق السادس من مقر الإسكوا، نافذته تطل على مشهد يدمج بين عبق التاريخ وروح التعايش، في مواجهة مباشرة مع مسجد محمد الأمين الذي يعكس الطابع العمراني العريق للمنطقة، وعلى مقربة منه تقف كنيسة مار جرجس المارونية شامخة، رمز للتعددية الدينية والتاريخية في قلب العاصمة اللبنانية. كان هذا المشهد اليومي يذكره دوما بأن العمل الإنساني لا يمكن أن ينفصل عن روح السلام والتعايش. وأن عمله رسالة للتعايش والسلام والتنمية الإنسانية.

خلال ساعات العمل الطويلة، كان هذا المنظر يمنحه شعورا بالهدوء والإلهام، نافذة مكتبه لم تكن مجرد فتحة تطل على الخارج، بل كانت نافذة على الحياة بألوانها المتنوعة، على اختلاف الناس ومعتقداتهم وثقافاتهم، وكلما نظر إلى المآذن والأجراس على حد سواء، شعر بمسؤولية أعمق تجاه المجتمعات التي يخدمها، فأعماله في الزراعة والأمن الغذائي وإدارة الموارد الطبيعية  جزء من رسالته الإنسانية الكبرى التي تربط بين الإنسان والطبيعة والسلم الاجتماعي.

من هناك يدير برامج إقليمية ضخمة من إدارة الموارد الطبيعية المستدامة إلى التكيف مع التغير المناخي من سوريا إلى فلسطين واليمن والمغرب…، تاركا أثرا دائما في المجتمعات التي عمل معها. وأصبح اسمه موسيقى في المحافل الدولية. موسيقى ينبع منها الاحترام وعندما يتحدث بالانجليزية الراقية أو العربية العتيقة أو الفرنسية الرصينة تنصت العقول وتنبسط القلوب، حيث يساهم في وضع استراتيجيات تربط المياه والغذاء والطاقة وتغير المناخ مع التركيز على التمكين المحلي والمشاركة المجتمعية. كان حضوره هناك مرشدا ومتعاونا وصديقا لكل من تعامل معه رجلا متواضعا قادرا على ربط المعرفة بالواقع اليومي.

البعد الإنساني

رحلة العمراني لم تكن مجرد مسار مهني بل حياة خدماتية وإنسانية في كل مكان عمل فيه. كان يستمع للناس أولا ويبحث عن حلول تخفف من معاناتهم اليومية ويحرص على أن تكون الطبيعة جزء من الحل لا مجرد مورد. ابتسامته المتواضعة وصدقه وقدرته على الاستماع جعلت منه شخصية محبوبة وموثوقة تترك أثرا في كل فريق وفي كل مجتمع نشر عشرات الأبحاث العلمية حول الزراعة والمياه والصحة البيئية وأمن الغذاء وشارك في مؤلفات عالمية وقدم مئات أوراق السياسات والتقارير الإقليمية نظم برامج تدريبية وطنية وإقليمية لبناء القدرات ساهمت في نشر المعرفة وتحقيق أثر ملموس على الأرض.
نال تقدير مؤسسات دولية ووطنية على جهوده في تعزيز الأمن الغذائي وإدارة المياه والتنمية المستدامة وترك أثرا مباشرا في تحسين حياة المجتمعات القروية من غانا إلى لبنان ومن المغرب إلى اليمن.
رحلة حمو العمراني تشبه النهر ينبع من جبال تيمحضيت. يتدفق عبر إفريقيا والعالم العربي يروي الأرض والناس حيثما مر صافيا في جوهره، متواضعا في مساره، عظيما في عطائه. مغربي عالمي جعل من المعرفة وسيلة لخدمة الإنسان، ومن الرحمة منهجا، ومن الأرض موطنا للكرامة والحياة، من الأطلس إلى العالم العربي وأبعد.
الرجل جمع بين الرؤى الصائبة،  بين الطفولة المبكرة والجهد المبذول في طلب المعرفة، بين العمل الدولي والمهنية العالية والإنسانية الرقيقة، بين العلم والوفاء للقيم والأخلاق والود والحب للوطن. وفي كل محطة ظل حمو متواضعا خلوقا ودودا يجمع بين الحكمة العلمية والفهم الإنساني. ويعرف كيف يجعل الكلمات تصل إلى القلوب قبل العقول صوته هادئ وانسيابي وأفكاره متألقة ورؤاه دقيقة كالسهم الذي يخترق الهدف بقوة، لكنه يظل موغل في التواضع يميل رأسه أحيانا يمينا أو يسارا كالسنبلة أثقلها الحب.

ترك حمو العمراني أثرا عميقا في كل بلد اشتغل فيه. في غانا وفي مصر وفي لبنان، حيث صار محبوبا من أهل المكان قبل أن يكون مكرسا في المؤسسات الدولية. فمساره المهني كان رحلة إنسانية عميقة بقدر ما تخدم السياسات العامة تخدم الإنسان أولا والطبيعة دائما. يشتغل بمقاربة ميدانية تجعل أثره ملموسا في حياة الناس في تفاصيلهم البسيطة وفي أحلامهم الكبيرة. ولذلك أصبح اسمه مرادفا للثقة والرؤية والإنصات. وهو اليوم أحد أبناء مغاربة العالم الذين يجسدون صورة مشرقة عن الكفاءة المغربية في المحافل الدولية يمضي في طريقه بهدوء لكنه يترك بصمة قوية لا تمحى في كل أرض يطأها.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!