مدينة الشاون المغربية : عاصمة السينما الخضراء ووجهة للسياحة الثقافية
آفاق بيئية:محمد التفراوتي
حين يلتقي الأزرق بالأخضر: مدينة تتنفس بيئة وسينما
امتزج اللون الأزرق الذي يكسو أزقة وزوايا مدينة شفشاون المغربية، بسحر اللون الأخضر الذي يحمله مهرجان السينما البيئية، فكان الناتج لوحة فنية فريدة تجسد التناغم بين الجمال الطبيعي والوعي البيئي. هذا التمازج البصري والرمزي جعل من المدينة فضاء يعبر عن روح الأرض، وعن الفن كوسيلة لحمايتها والدفاع عنها.
في مدينة شفشاون، لم يعد اللون مجرد خلفية عمرانية أو زخرفا سياحيا، بل أصبح حامل لرسالة. فالأزرق ظل يعانق الأخضر دورة بعد أخرى، ليؤسس لثقافة سينمائية بيئية تستوطن الذاكرة وتغذي الانتماء.
منذ انطلاق المهرجان سنة 2009، أضفى على مدينة شفشاون علامة تميز جديدة جعلتها تحجز لنفسها موقعا خاصا على خريطة الثقافة العالمية، باعتبارها عاصمة للسينما الخضراء. هذا التتويج الرمزي لم يكن فقط مرتبطا بالتظاهرة الفنية، بل كرس المدينة كقبلة حقيقية للسياحة الثقافية والبيئية.
انطلقت فكرة تنظيم المهرجان البيئي السينمائي من رؤية تهدف إلى تطبيع الجمهور مع الفن السابع، وتعزيز حضوره في الحياة الثقافية. فكانت السينما هي المدخل الأول، حيث تم عرض أفلام محلية أنتجها شباب المدينة، مع المزج بين الأعمال الفنية العامة وتلك التي تلامس القضايا البيئية.
توسع نطاق المهرجان تدريجيا، فانتقل من طابعه المحلي إلى بعد جهوي، ثم وطني، مع التركيز على أفلام الهواة. وبدافع الطموح والإصرار، تم التوجه نحو البعد الدولي، لكن مع الحفاظ على التخصص في المجال البيئي فقط، ما مكن من استقطاب جمهور واسع ومتنوع.
اعتمد المهرجان هذه المقاربة بهدف توفير فضاء خصب للهواة لممارسة إبداعاتهم، وصقل مواهبهم، وعرض أعمالهم ضمن منافسات المهرجان. واليوم، أصبح لهذا المهرجان البيئي السينمائي رواده، من محترفين وطلبة يتابعون دراساتهم في المجال، ويشاركون بفرح واعتزاز في فعالياته المتنوعة.
ورغم توقف المهرجان لعامين بسبب جائحة كوفيد-19، فقد عاد ليستمر في تألقه، ويصل اليوم إلى دورته الرابعة عشرة، محافظا على صموده وملتزما برسالته الأساسية في الدفاع عن البيئة عبر الفن.
دخل المهرجان مرحلة العالمية سنة 2018، بعد سنوات من الاعتماد على الجهود الذاتية والتطوعية، ما يعكس مسارا مميزا من العمل الميداني الجاد، القائم على الصبر والإيمان العميق بقضية البيئة كقضية حضارية وإنسانية.
هذا المهرجان لا يكرس فقط شفشاون كعاصمة للسينما الخضراء، بل يضعها في قلب دينامية عالمية جديدة تعترف بالثقافة كرافعة للتنمية المستدامة. إنه مشروع جماعي ممتد في الزمن، يربط بين أجيال من المبدعين والفاعلين، ويمنح المدينة إشعاعا ثقافيا يتجاوز الحدود.
واليوم، مع كل دورة جديدة، يواصل المهرجان رسالته النبيلة. تكريس الجمال في خدمة القضايا الكبرى، وإعلاء صوت البيئة عبر عدسة الكاميرا وصدق الإبداع
السينما الخضراء: رافعة للوعي ووسيلة للاعتراف الدولي
على مدى سنوات، ساهمت الأفلام المعروضة ضمن مهرجان شفشاون للسينما البيئية في ترسيخ ذوق سينمائي متميز لدى الجمهور، يجمع بين جمالية الصورة وعمق الرسالة البيئية. لقد تجاوز الأمر مجرد فرجة، ليصبح تراكما ثقافيا يغذي الوعي الجماعي بقضايا البيئة، ويعيد تشكيل علاقة الفرد بمحيطه.
فالسينما الخضراء، بأبعادها التربوية والجمالية والبيئية، أصبحت أداة فعالة في خدمة التنمية المستدامة، وساهمت بشكل ملموس في منح المدينة إشعاعا دوليا. ولم يأت وصف شفشاون بـ”عاصمة السينما الخضراء” من فراغ، بل جاء نتيجة مسار حافل، دفع حتى وسائل الإعلام الدولية إلى ربط اسم المدينة بهذا المهرجان البيئي المتميز.
أتذكر ذات مرة، خلال مشاركتي في مؤتمر دولي حول البيئة ضم نخبة من رواد المجتمع الدولي في هذا المجال، سئلت عن بلدي، فأجبت: “المغرب”. فجاء الرد سريعا: “آه، شفشاون… مهرجان أفلام البيئة!” حينها أدركت بحق مدى أهمية الفن السابع كوسيلة للترويج للقضايا الجوهرية، ومدى ما يمكن للثقافة أن تحققه من حضور وهيبة على الساحة العالمية.
دورة 2025: تنوع وغزارة في الإبداع السينمائي البيئي
شهدت دورة سنة 2025 إقبالا واسعا كالعادة، حيث بلغ عدد المشاركات ما يناهز 150 ترشيحا، توزعت بين أربعة أصناف. الأفلام الطويلة الاحترافية، الأفلام القصيرة الاحترافية، و الأفلام القصيرة للهواة، و الأفلام التربوية والتعليمية.
وقد عكست هذه المشاركة الواسعة اهتمام صناع السينما من مختلف أنحاء العالم بالبيئة كقضية إنسانية كونية. كما أكدت مكانة المهرجان كمحفل دولي جاذب، خصوصا مع إقبال مخرجين كبار معروفين على مستوى السينما البيئية على التباري فيه.
ولتدبير هذا الزخم الفني، يعتمد المهرجان على عملية فرز دقيقة، تخضع فيها الأعمال لمعايير فنية وموضوعاتية محددة، تأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات الزمنية المتاحة، ووتنوع المعالجة السينمائية، ومدى التزام الفيلم برسالة المهرجان البيئية والفنية. هذه المنهجية تضمن التوازن بين جودة البرمجة وانسجام الرسالة.
مهرجان يؤسس لوعي بيئي وجمالية سينمائية مستدامة
لقد تحول مهرجان شفشاون للسينما البيئية من مجرد مبادرة محلية إلى تجربة فنية وثقافية متكاملة، تجسد التفاعل الخلاق بين الفن والبيئة. فبفضل رؤيته الثابتة، استطاع أن يسهم في نشر الوعي البيئي بأسلوب إبداعي وجذاب، وأن يجعل من السينما وسيلة تربوية وتحسيسية قوية.
الدورة 14 في خدمة المناخ والسينما والثقافة:
من 10 إلى 13 شتنبر 2025، تستضيف مدينة شفشاون الزرقاء الدورة الرابعة عشرة من المهرجان الدولي لفيلم البيئة (FIFE)، الذي تنظمه جمعية تلاسمطان للبيئة والتنمية، بشراكة مع مجموعة الجماعات الترابية “تلاسمطان”، وبدعم من المركز السينمائي المغربي ومجلس جهة طنجة – تطوان – الحسيمة.
وبعد تأجيله في يونيو الماضي، تؤكد هذه الدورة الجديدة مكانة المهرجان كموعد بارز يلتقي فيه السينما والإيكولوجيا والسياحة الثقافية. وتحمل الدورة شعار: “سينما خضراء من أجل مناخ سليم ومستدام”، مواصلة رسالتها المتمثلة في جعل الفن السابع وسيلة ناعمة ولكن فعّالة لـ التحسيس بقضايا المناخ والبيئة.
السينما، مرآة ومحرك للوعي البيئي
يجسد المهرجان، منذ تأسيسه، قدرة السينما على ملامسة الوجدان، وإثارة النقاش، وتحفيز التغيير بشأن قضايا كبرى مثل تغير المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والتلوث. ومن خلال العروض والحوارات، يبرز المهرجان (FIFE ) أن الصورة المتحركة يمكن أن تصبح محفزا للتحول الاجتماعي، وأداة للتربية البيئية متاحة لكل الأجيال.
بصمة خاصة: “مهرجان بدون بلاستيك“
يمثل المهرجان (FIFE) أول مهرجان من نوعه في المغرب والعالم العربي وإفريقيا يعتمد سياسة “مهرجان بدون بلاستيك”، ليكرس بذلك نموذجا فريدا في الانسجام بين القيم البيئية والممارسة العملية. وهو اختيار رمزي يعكس التزاما فعليا، يتجاوز حدود الخطابات.
إشعاع وطني ودولي
بمشاركة أسماء بارزة من المخرجين والفنانين والباحثين والناشطين البيئيين، يرسخ المهرجان موقعه كمنصة للتفاعل بين عوالم السينما والبيئة، ويجذب الاهتمام على المستويين الوطني والدولي، مما يعزز حضور المغرب في شبكات السينما الخضراء والتعاون الثقافي العالمي.
ويواصل تقليده المتمثل في تكريم شخصيات مؤثرة بمنحها لقب “سفراء البيئة”، اعترافا بإسهاماتهم في نشر قيم الاستدامة وحمل رسائل الوعي البيئي إلى جمهور أوسع.
شفشاون، عاصمة زرقاء للثقافة والإيكولوجيا
لا يقتصر المهرجان على عروض الأفلام، بل يسهم في إبراز التراث الطبيعي والثقافي الغني لـ “جيوبارك” شفشاون، من خلال برمجة الأنشطة بين شفشاون وباب تازة وأقشور. وستكون الانطلاقة من باب تازة عبر صبيحة تربوية وسينمائية موجهة للأطفال، تشمل عروضا ونقاشات وورشات تحسيسية.
ومن خلال الدمج بين السينما والبيئة والسياحة الثقافية، يساهم المهرجان في تعزيز صورة شفشاون كوجهة دولية للتنمية المستدامة.
برنامج متنوع وغني
تشمل دورة 2025 أربع مسابقات رسمية. الأفلام الدولية الاحترافية (الطويلة والقصيرة)، أفلام الهواة، أفلام المؤسسات التعليمية، وفقرة البانوراما.
وسيشهد المهرجان ندوتان رئيسيتان: “سينما البيئة بعيون نسائية” و “الثورة الرقمية كرافعة للتربية البيئية والتنمية المستدامة في جيوبارك شفشاون”. ثم ماستر كلاس جماعي مع عرض شريط بيئي عالمي حائز على جوائز. وكذا أنشطة تربوية للأطفال لتعزيز الثقافة البيئية لدى الجيل الناشئ.
دعوة مفتوحة
بهذه الدورة الرابعة عشرة، يجدد المهرجان الدولي لفيلم البيئة بشفشاون طموحه في أن يكون أكثر من مجرد حدث سينمائي، بل حركة مواطنة تجمع الفنانين والمفكرين والناشطين حول هدف مشترك: حماية الكوكب.
وتدعو شفشاون عشاق السينما، والمهتمين بقضايا البيئة، والمبدعين، وكل محبي الطبيعة إلى المشاركة في هذا الموعد المتميز، حيث تلتقي السينما بالإيكولوجيا والثقافة والأمل.