مكناس: محمد التفراوتي
كلما راجعت كتب جدي المهترئة، أو تقلبت صفحات “دليل الخيرات”، أو هممت بأخذ سبحتي الخاصة، اندفعت اندفاعا عجيبا لمغادرة الزمن الحالي.
أسافر بعيدا، شارد الذهن، أسبح بحرية مطلقة في غياهب الأزمنة المنسية، تلك التي أثث مشهدها رجال… ولا كل الرجال.
غمرتني مشاعر جياشة للحرمان، ذلك الذي أعيشه منذ أن غادرنا جيل لا يعوض، في غفلة من حنيننا، وقبل أن نستعد للوداع.
غفلة الاستئناس مع نعم لم نعرف قيمتها،
إلا حين انسحبت من حياتنا في هدوء، وصعدت إلى الأفق البعيد.
ذكرى لا تنطفئ
كنت أحب جدي حبا كبيرا. هو الذي به انطفأت شمعة متوهجة في قلبي. وامتد نوره في الأرواح من حولي، كما يمتد الفجر في الأفق البعيد. وما زال وهجها يتردد في زوايا الحياة، كأنها لم تنطفئ قط. وظل دفؤها يسكن أيامي، كنسيم لا يعرف حدودا. وسرى أثرها في دنياي كما تسري البركة في الأزمان الطيبة. كأن بصمته ظلت تلمع في الذاكرة، كلما تنفست حضورا غائبا.
وامتدت حكمته كظل شجرة وارفة، لا يحدها زمان ولا مكان. كأنها زرعت في قلبي شمسا، لا تغيب أينما حللت.
جدي، سيدي محمد بن هاشم، كان مقعدا، تخدمه أمي بعناية وحنان، نحن الصغار، نلتف حوله طمعا في القصص، في الأنس، في بركة الوجود.
كان يجلس على سريره الخشبي، والنور يسطع من وجهه، يتلو كتاب الله، ويكثر من الأذكار، وأحبها إليه: اللطيف.
فول الجد… وطقوس البركة
لقبوه بـ”مول اللطيف”، لأنه ما فتئ يردد اسم الله هذا بصدق ووفاء: “الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو اللطيف الخبير”
وكان كلما بلغ مئة تسبيحة، أخرج حبة فول من كيس صغير موضوع قربه، كأنها عملة محبة، يعد بها لقاءاته مع الحضرة الإلهية. كلما سبح باسم “الله اللطيف” مائة مرة، أخرج حبة فول واحدة، يضعها جانبا…في طقس روحاني صامت،كأنه يعد بها خطواته نحو السماء.
وكنا، نحن الصغار، ننتظر بشوق أن يكتمل العدد، فحينها تطهو لنا أمي ذلك الفول “الشريف”،
وتقدمه على مائدة صغيرة…بطقوس أقرب إلى الاحتفال.
وكانت أمي تتلقى طلبات الجيران والمعارف: “هل هناك بعض من الفول الشريف؟”
فترفع الغطاء عن قدره، وتمنحه بحذر، كأنه عملة نادرة…
تهدى استجلابا للبركة، واستحضارا للفهم، ولتشرب معها الألسن ذكر الله تعالى.
ركن من نور ومحبة
كان بيتنا ركنا من نور ومحبة. ضاجا بالزائرين المحبين.
أصدقاء، أحباب، فقهاء، زهاد، علماء من مذاهب وتوجهات مختلفة، تجمعهم المحبة…
يتقاطرون فرادى ومثنى، يدخلون دون استئذان…
وتبدأ المجالس. تلاوة، تفسير، حديث في المعنى، وذكر يعلو حتى يلامس الأرواح.
أنا كنت صاحب “الصينية”، أحمل الشاي والحلوى، بعد إعداد من أمي، وأتنقل بين الجالسين بخفة الأطفال،
وشوق الكبار.
تكبيرات المحبة ومصافحة الأرواح
ومن أعز الزائرين: الحاج حمان. كان لا يطرق الباب… يرفعه بتكبيره: “الله أكبر!”
ويرد عليه جدي من الداخل، من سريره، “الله أكبر!”
وهكذا أربع أو خمس تكبيرات، تتناوب بينهما، حتى يلتقيا، ويشرعا في “مفاوضة” من سيقبل يد الآخر.
يريد الحاج حمان تقبيل يد جدي، فيرفض جدي، ويحاول تقبيل يد الحاج حمان، لكن ساعده النحيل لا يساعده،
فينتصر الحاج حمان، وتبقى المحبة وحدها الموقع على هذه المصافحة.
وكان هناك أصدقاء آخرون، يتبادلون التحية بتقبيل كل منهما يد الآخر، لا خلاف بينهم، ولا مدافعة كما بين الحاج حمان والجد، ربما رأفة بحال الجد، أو تلبية لخاطره،
وربما تبعا لعادة الصالحين، التي تجعل من تقبيل يد المحب فعلا متبادلا من أدب القلوب، لا يتعالى فيه أحد،
ولا يتنازل فيه أحد، بل تتصافح الأرواح في طقس خالص من المودة والخشوع.
أما الحاج أحمد لغريسي، فكان يأتي كل خميس، صائما، لا يغادر حتى مغرب الشمس، يقضي اليوم كله في مجلس الجد، يتحدثان عن الدين، التاريخ، الفقه، القصص، حياة الصاحين…الصمت
ويبقى بينهما كلام لم يقل. كنت أجلس بينهما، أسترق المعاني، ولا أفهم سوى أنني في حضرة الكبار.
وذات خيال، تراءى لي مولاي عبد الله العدناني، ذاك المقاوم الصلب، الصامت، النقي، الذي كان من أبناء منطقة جدي، كان مقاوما صلبا في وجه الاستعمار،
ثبت حين اضطربت الخطى، وأبلى البلاء الحسن في ساحات الكفاح الصامت، ذاق العذاب، ونفي عن الديار،
لكن روحه بقيت شامخة، لا تنكسر… كغصن زيتون تحدى الريح، وجذر في الأرض لا تقتلعه العواصف.
زاوية العارفين
كنت أنجذب إلى شخصية مولاي عبد الله، فيها شيء لا يوصف يشدني رغم صغري، هيبة ممزوجة بلطف، وصمت يبوح بالكثير. وكنت أناديه “أبلااه”، لعجزي عن نطق اسمه المنير “عبد الله”، لصغر سني وعدم تمييزي بين الأسماء.
كنت أتشبث بجلبابه كلما لمحته، كأن حضوره يمنحني أمانا خفيا، وأطلب أن يصحبني معه بإلحاح طفولي، كما فعل ذات مرة، حين أخذني برفق إلى زاوية العلامة الفهامة سيدي محمد بلحبيب الأمغاري، تلك الزاوية التي يقصدها المشتاقون، عشاق التفسير القرآني الإشاري. المتذوقون لأسرار المعاني، والسائرون في دروب الصفاء.
وهي الصورة الوحيدة التي بقيت راسخة في ذاكرة الطفولة، منقوشة في أعماق الوجدان، كأنها مشهد لا يغادر شرفة القلب.
مولاي عبد الله، بوجهه النوراني، يمسك بيدي الصغيرة،
ويقودني نحو زاوية العلامة الفهامة سيدي محمد بلحبيب الأمغاري، تلك الزاوية التي يقصدها المشتاقون،
عشاق التفسير القرآني الإشاري، والسائرون في دروب المعاني الباطنية بنور الفهم، الذين يتذوقون المعاني بنور القلب، ويغوصون في إشراقات الكلام كما يغوص العارفون في بحار المعنى.
في فترة من الزمن، حين كانت الزاوية محجا عامرا بالمشتاقين، كانت مجالسها تفيض بالمعاني، ويحج إليها من تلألأ في قلبه الشوق.
كان السارد المحب عبد الحميد غازي، يتلو بعض الآيات بصوته السجي، حتى يوقفه الشيخ سيدي محمد بلحبيب بعبارة: “حسبك” ويغوص في شرح يكشف إشراقات ومعان لم يسمع بها أحد من قبل.
ومن أعظم المحبين لجدي… كان مولاي هاشم البلغيتي،
الرجل الذي إذا حضر، حضر النور، وإذا تكلم، نطق الصدق،
وإذا سكن، سكنت النفوس.
ابتسامته الساحرة، كأنها نسمة خفيفة تخترق زحام الهموم، تنثر ضوءا دافئا يلامس القلب بلطافة. ونظراته الدقيقة تخفي وراءها حكمة صامتة، تروي قصصا دون أن تنطق.كان شعلة صغيرة من المرح والدهشة، تضيء عتمة اللحظة بلطف وحنكة.
وكذلك الحاج عبد المحسن، الممرض الودود، محبوب اهل مكناس، كان بمثابة الابن للجد، وداعته تشي ببراءة طفولية لا تفارقه، وكانت محبته عميقة، لا تخفى.
بمجرد رؤيته لجدي، يشع وجهه نورا وإشراقا، لا ينقطع عن زيارته، كأن بين قلبيهما عهدا لا ينقض.
وما زلت، إلى اليوم، حين ألتقي أبناء أو أحفاد هؤلاء الأحباء تنتابني تلك الرعشة الدافئة، كأنني ألتقي بطيف صديق الجد، بصدى محبة قديمة لا تزال ممتدة، من زمن الجد… إلى زمننا.
جميعهم غادرونا… لكنني ما زلت أراهم… كلما أمسكت بكتب جدي البالية، أو سبحت باسم “اللطيف”، أو شممت عطر الشاي المنعنع، أو سمعت “الله أكبر!” تنبعث من نافذة قلب قديم.