مكناس: محمد التفراوتي
تمسكت بولدها، والدموع تنهمر من عينيها، فيما كان زوجها يحاول تهدئتها.
– لقد بدا على ابننا نبوغ باهر، وأتم حفظ القرآن الكريم. لابد أن ينهل من علوم ومعارف أخرى بجامعة القرويين.
– لكنه كفيف، لا يقوى على التحمل…
بعد عناء، توقفت عن بكائها الشديد، وجذبت الطفل من طوقه بعنف ممزوج بعطف، وأخذت تقبله وهي تجفف دموعها مودّعة، ومقلتاها مشدودتان إلى السماء، تتوسل إلى اللطيف أن يحفظ حبيبها.
كانت تلك أول ليلة سيفارقها فيها مولاي عبد الملك الضرير، بعدما كان لا يخلد إلى النوم إلا في حضنها الدافئ.
– أرجوك خذ حذرك، فاللصوص وقطاع الطرق يتربصون بالقوافل. اجعل مولاي عبد الملك أمامك دائمًا، لا تغفل عنه…
– لا تقلقي، فالقافلة يرافقها “الزطاط”.*
– هيا، أسرع… القافلة على وشك الانطلاق.
انطلقت القافلة، تشق الفيافي والقفار. وكان الأب يعتريه شعور مختلط بالتوق إلى العاصمة العلمية، وبقلق عميق يعتصر قلبه. فبينما يحلم بلقاء مدينة العلم، تتناوشه ظنون ووساوس… هواجس أربكت طمأنينته وجعلته يتساءل: هل من الصواب فراق فلذة الكبد؟
– أتدري يا أبت، أن جامع القرويين تم تشييده من طرف السيدة فاطمة الفهرية؟
– نعم، نعم… لقد وهبت كل ما ورثته من مال لبناء المسجد.
ثم عاد الأب إلى شروده مجددا…
عند الظهيرة، وصلت القافلة إلى فاس. انطلق معظم الركاب للتبضع واستعراض التمور البهية في أسواق المدينة، فيما انشغل الأب بالبحث عن أحباب أو أقارب قد يستضيفون الطفل النابغة ليلتحق بجامعة القرويين.
استنفد جهده، دون جدوى. وكان القلق يثقل قلبه، بينما القافلة تستعد للعودة، بعد أن قضى الجميع مآربه.
الغريب أن الطفل لم يبد أي انفعال أمام حرج وارتباك والده. بل بدا النور يتسلل إلى شغاف قلب الضرير، مغتالا فيه كل وجل من المجهول.
– اتركني يا أبي عند الله… نعم، اتركني في ضيافة رب العزة. لا تتردد، فأنا في كنف جواد كريم.
انبهر الأب بيقين ولده الضرير.
– كيف تقول هذا؟
– اتركني أمام المسجد… “ولها مدبر حكيم.”
كانت عيون رفقاء الأب تدور في محاجرها، يشع منها بريق حائر ومنكسر.
تظاهر الأب بالتماسك، لكنه كان محطم الأعصاب، قلبه معلق بين الرجاء والأمل. ولم يجد بدا من تركه أمام جامع القرويين، يتلو بصوته السجي، وبالقراءة الفيلالية*، آيات بينات من الذكر الحكيم.
قفل راجعا مع القافلة نحو بلدة الراشيدية، يخفي حرجه، وانكسار جلده الصحراوي، أمام هول الموقف. تتقد من عينيه نظرات يلفحها العذاب، وتزيدها اللوعة توهّجًا وهو يتوارى عن المكان.
بدأ المارة يتلكؤون في مشيهم، منصتين إلى عذوبة الصوت الطفولي الذي يقرأ القرآن. وفجأة، ظهر رجل ضخم الجثة، عليه آثار النعمة، بشرة ناصعة، وعمامة صفراء أنيقة، يرتدي جلبابا بلون “عنق الحمام”، وفوقه سلهام من صوف فاخر.
شق صفوف المتجمهرين، يحاول استكشاف مصدر الصوت، ثم جلس القرفصاء أمام الطفل، وابتسم بوداعة وهيبة.
– تبارك الله عليك يا بني.
– جزاك الله خيرًا.
– هل تشاركني الغداء؟
ثم سأل:
– ابنُ مَن أنت؟
قصّ عليه مولاي عبد الملك الضرير حكايته، وقد تجمهر جمهور غفير حولهما.
نهض الرجل، نفض سلهامه، وهمس في أذن الطفل:
– إذن، هيا نذهب…
أسرع الخادم يحمل متاع الطفل، وقاده إلى بيت السيد الثري، حيث وفّر له خادمًا، وغرفة مجهزة بمستلزمات الدراسة، وأواني وضوء، وسجادة صلاة، وقنديلًا.
ثم كلّف خادمًا خاصًا برعايته، واصطحابه يوميًا إلى جامع القرويين، لتلقي العلوم الشرعية، والمتون، وفنون الأدب والتاريخ.
شبّ الطفل في كنف الرجل، وترعرع بالعاصمة العلمية، وتفجرت مواهبه، وتفتقت عبقريته، حتى غدا حديث المجالس.
وفي نهاية العام، حصل على الشهادة العالمية من جامعة القرويين، فاختير مولاي عبد الملك الضرير سلطان الطلبة لتلك السنة.
نظم الطلبة، بالمناسبة، وكما جرت العادة، حلقات ثقافية ألقيت فيها خطب وقصائد شعرية وفنون من الأدب والعلم.
انتهى الحفل يوم الجمعة الموالية، بخطبة عصماء لسلطان الطلبة، أدهشت الحاضرين.
وخلال الاحتفال، رُفع العلامة الضرير فوق صهوة جواده، والخدم يرفعون شمسية السلطان، تظلل هامته وسط الزغاريد والهتافات المهنئة.
وفي قمة العز والرفعة، ردد بصوت يجلجل القلب:
يا أبي، يا أبي، يا أبي… أنظر إلى ذاك الذي تركتني عنده، ما الذي فعله بي؟!
وانتهى الحفل، لكن صوت مولاي عبد الملك بقي يتردد في ذاكرة المدينة، يشهد عليه أهلها وحجارتها وأسوار القرويين:
“ما خاب من توكل على الكريم،
ولا ضاع من أودع قلبه كتاب الله.”
الحواشي:
سلطان الطلبة: هو الطالب الذي ينال الشهادة العالمية من جامعة القرويين، ويُحتفى به بمراسيم مهيبة.
الزطاط: حارس جسور وشجاع، يرافق القوافل ويحميها من قطاع الطرق، بأجر متفق عليه.
الفيلالية: قراءة قرآنية تُنسب إلى منطقة “فيلالة” قرب الراشيدية، جنوب المغرب.
السلهام: عباءة مغربية تقليدية من الصوف تُرتدى فوق الجلباب.
تنويه ختامي:
هذه القصة ليست من محض الخيال، بل هي رواية شفوية حقيقية، حكاها لي جدي سيدي محمد بن هاشم، من رجال العلم والذاكرة، رحمه الله. نقلها إلي كما سمعها بدوره، فحفظتها وكتبتها بلسان معاصر، وفاء لذاكرة الجد، وتكريما للعلامة مولاي عبد الملك الضرير، سلطان الطلبة.