آفاق بيئية: د. حمدي هاشم
أعادت فرضية تغيير الشرق الأوسط بالقوة، المتماهية مع الغرب بأنه الأعلى والسيد على الشرق الأدنى! وهو (الغرب) لا نماء فيه إلا باستلاب ثروات الشرق، أعادت ذهنية حالة الحرب بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي لاستعادة بيت المقدس، وولوج السفن الأوروبية البحر الأحمر. وإن كانت فلسطين المشترك المكاني، فقد تغيرت الظروف مع هيمنة القطب الواحد، وتمرد إسرائيل على الشرعية الدولية، لتدخل السفن الحربية البحر الأحمر لدعم القبة الإسرائيلية من بعد، ومناصرة الإبادة الجماعية، وتغيير جغرافية وعد بلفور من وطن يعيش فيه اليهود مع الشعب الأصلي إلى مستقر خالص لليهود!
يشكل البحر الأحمر الظهير الحيوي للأمن القومي المصري، منذ سلكه قدماء المصريين (1475ق.م) وصولاً إلى مملكة البنط (حضارة يمنية قديمة)، على سواحله الشرقية، بحسب دراسة حديثة. وظل ممراً مصرياً للتبادل التجاري بين بلدان كثيرة، وحالياً يشغل ساحلها نحو (30) % من جملة سواحل الدول الثمانية المطلة عليه. وقياساته تجعل منه خليجاً داخلياً باتساع يتراوح ما بين (350) إلى (200) كم، وعند باب المندب إلى (30) كيلو متراً خلف خليج عدن وبحر العرب. وتسجل ذاكرته الصراعات بين الحضارات المصرية وحضارات ما بين النهرين، وهجرات العبرانيين، والسيطرة الرومانية بغزو الإسكندر الأكبر، ودخول المسيحية وظهور الإسلام وانتشاره، والحروب الصليبية، وما بعد ذلك.
وفشلت محاولة استيلاء الأوروبيين على ميناء عدن، وصولاً لاحتلال مكة والمدينة، بدعم من الأسطول المصري (العثماني)، بحسب مصادر تاريخية (1513م). وحاول هؤلاء الغزاة تحويل تجارة البحر الأحمر إلى خليج العقبة والموانئ الصليبية بالشام لضرب اقتصاد مصر. وكذلك مجري النيل الأزرق ليصب في البحر الأحمر (شرقاً) لإسقاط المماليك وتعطيش مصر، بمشورة من الجنرال البحري البرتغالي (البوكيرك) لملكة الحبشة (هيلانة). وقد استغلت إسرائيل الحقبة اليهودية لبلاد الحبشة، في فكرة نقل مياه النيل الأزرق عبر البحر الأحمر، لتنمية صحراء النقب على خلفية ترقب “حرب اليوم العظيم” المنتظر! واليوم تتحايل إثيوبيا لاستئجار إطلالة بحرية لها، تمكنها من منفذ عام بعد فقد أراضي ساحل البحر الأحمر باستقلال اريتريا (1993م)، وذلك من أرض الصومال (الإقليم غير المعترف به دولياً)، الأمر الذي لا يخلو من تطلعات عسكرية ودور استراتيجي بالقرن الأفريقي.
يعد البحر الأحمر الممر الأهم في حركة التجارة الدولية بين الشرق والغرب، منذ بدأت قناة السويس (1869م)، ولمعت أهميته الاستراتيجية في إغلاقه خلال حرب أكتوبر (1973م) لمنع السفن الإسرائيلية من الملاحة فيه، لأنه يشكل المسرح الطبيعي حيث تدور الصراعات والمنافسة الإقليمية. وهيأت معركة غزة، وترصد اليمن بفعل هذه الحرب للسفن الإسرائيلية من المرور فيه، الفرصة للاجتياح من قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، التي أشعلت جمرة البحر الأحمر، وتسببت في تأخير سلاسل الطاقة والغذاء، فتأثر اقتصاد أوروبا ودول شمال أفريقيا والحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ويزيد هذا الغزو من الضغوط الاقتصادية على مصر، بسلاح عائدات قناة السويس وموقعها البحري الاستراتيجي، للدفع بالفلسطينيين داخل سيناء، التي ترفض تلك الإسرائيليات السياسية شكلاً وموضوعاً.
وليس بغريب دخول سفن التحالف البحر الأحمر (فوراً) مع تبرير مجلس الأمن المطلوب لهذا التدخل العسكري، بعكس الاعتراض الأمريكي (المتناقض) على وقف الحرب في غزة! ناهيك عن الاحتباس الدولي لقرارات خلاص الشعب الفلسطيني منذ سنة (1948م). ولا يخفى سلوك أمريكا وإسرائيل المشترك في الإبادة الجماعية للشعب الأصلي (بدعم من أوروبا)، وغير ذلك من متلازمة الحرب والاقتصاد. وأكد “روبرت كابلان” في كتاب “انتقام الجغرافيا”، حيث تظل ثروات المنطقة العربية، وأهمية مدخل البحر الأحمر، السبب في صراعات النفوذ الإقليمية والدولية، ويبقى الحل في جيش عربي موحد!