آفاق بيئية : ماكسويل جوميرا*
قامت المنظمة البيئية الأكبر في إندونيسيا (والهي) مؤخرا بمقاضاة الحكومة أمام المحكمة لأنها أصدرت تصاريح بناء لصالح شركة صينية استنادا إلى ما تزعم المنظمة أنه تقييم “معيب للغاية” للأثر البيئي. الواقع أن منظمة والهي تؤكد أن مشروع سد باتانج تورو الذي تبلغ تكلفته 1.5 مليار دولار أميركي سيخلف عواقب بيئية وخيمة، بما في ذلك الانقراض المحتمل للفصيلة الأكثر ندرة من القردة العليا، أورانج أوتان منطقة تابانولي.
الواقع أن سد باتانج تورو واحد من العديد من مشاريع البنية الأساسية المخطط لها في مختلف أنحاء العالم، والتي اعتبرت رسميا سليمة بيئيا، على الرغم من المخاطر البيئية الجسيمة التي تشكلها. على سبيل المثال، الآن يكاد يكتمل بناء خط السكك الحديدية عبر متنزه نيروبي الوطني الشهير في كينيا، على الرغم من الغضب الجماهيري إزاء تقييم الأثر البيئي “المنقوص وغير الكفء”.
على نحو مماثل، وافقت الحكومة في غينيا على خطط لصالح شركة صينية أخرى لبناء سد داخل متنزه موين بافانج الوطني، وهو محمية لقرود الشمبانزي. ويقول خبراء إن تقييم الأثر البيئي الذي أجري يقلل بشكل كبير من عدد حيوانات الشمبانزي التي يهددها المشروع.
هذا اتجاه بالغ الخطورة، وربما يشوش التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية ــ بما في ذلك إنتاج الغذاء والماء، وتدوير المغذيات، والتنظيم الطبيعي لآفات المحاصيل والملقحات ــ التي تعتمد عليها أشكال الحياة كافة. وبالفعل، تدهور نحو 60% من هذه الخدمات. وفي ظل توقعات بأن يستثمر العالم نحو 90 تريليون دولار في مشاريع البنية الأساسية (بما في ذلك الطرق، والسدود، ومحطات توليد الطاقة) في السنوات الخمس عشرة المقبلة وحدها ــ وسوف يتجاوز حجم مشاريع البنية الأساسية الجديدة كل القائم منها حاليا على مستوى العالم ــ وهذا يدعو بإلحاح إلى اتخاذ تدابير عاجلة لضمان التزام قرارات الاستثمار بوضع العواقب البيئية الحقيقية لأي مشروع في الحسبان.
هذا هو الغرض من التقييمات البيئية الاستراتيجية. في عام 1991، وافقت الأطراف المشاركة في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا على اتفاقية بشأن التقييمات البيئية الاستراتيجية في سياقات عابرة للحدود. وفي شهر مارس/آذار من هذا العام، تبنت جمعية البيئة التابعة للأمم المتحدة، وهي أعلى هيئة تتخذ القرارات بشأن البيئة على مستوى العالم، قرارا يقضي بإلزام كل الحكومات بإجراء التقييمات البيئية الاستراتيجية قبل الموافقة على أي مشروع للبنية الأساسية.
تعكس هذه التحركات إدراك الحاجة إلى إجراء التقييمات البيئية الاستراتيجية لضمان عدم تسبب القرارات التي تتخذها الحكومات والشركات في إلحاق ضرر لا مبرر له بالبيئة الطبيعية أو الناس الذين يعتمدون عليها. والآن تعترف دول عديدة بالعلاقة بين الأنشطة الاقتصادية والنتائج البيئية، وتشترط إجراء التقييمات البيئية الاستراتيجية قبل الموافقة على المشروعات.
ولكن كما تكشف الأمثلة المذكورة آنفا، فإن التقييمات البيئية الاستراتيجية لا تفي بالغرض منها على نحو يمكن التعويل عليه. ويرجع هذا إلى حقيقة مفادها أن المتخصصين الفنيين يجرون عمليات التقييم البيئية الاستراتيجية بناء على طلب من أصحاب المشاريع ــ وهي ممارسة غير أخلاقية على الإطلاق، كما أشار النشطاء مرارا وتكرارا. فمع استناد استنتاجات القائمين على التقييم بشكل متكرر إلى تقييم سطحي فقط للقيمة الإيكولوجية والسوقية للنظم الإيكولوجية المتضررة، ليس من المستغرب أن تحصل المشروعات الضارة على الموافقة غالبا، على الرغم من إخفاقها في الالتزام بمبادئ التنمية الخضراء التوجيهية المتفق عليها على نطاق واسع.
من الأهمية بمكان أن تكون التقييمات البيئية الاستراتيجية صارمة، وجديرة بالثقة، وشفافة، حتى يتسنى لها أن تلعب دورا فعّالا في حماية كوكب الأرض وسكانه من البشر. وهذا يعني أنها لابد أن تُدار بواسطة مهنيين متخصصين ومنظمين ومحايدين. الواقع أن القوانين والمؤسسات اللازمة لتحقيق هذه الغاية قائمة بالفعل إلى حد ما: فالتقييمات البيئية الاستراتيجية معترف بها في العديد من دوائر الاختصاص، ومن الممكن أن تعمل الجمعية الدولية لتقييم الأثر على توفير التنظيم الذاتي. ولكن لا يزال الإطار الواضح لتنظيم سلوك القائمين على تنفيذ تقييمات الأثر، مثل نقابات المحامين التي تنظم عمل المهنيين القانونيين، غائبا.
وهنا، ربما يقدم لنا تطور مهنة المحاسبة دروسا مفيدة. فبرغم أن المحاسبة يمكن تتبعها لآلاف السنين في الماضي إلى بلاد ما بين النهرين، فإن المحاسبة لم يُعتَرَف بها كمهنة حتى حلول نهاية القرن التاسع عشر. في الولايات المتحدة، اشترط قانون صادر في عام 1896 اجتياز المرء امتحانات الولاية واكتساب الخبرة في العمل لمدة عامين، لكي يستحق لقب “محاسب قانوني معتمد”.
في شهر إبريل/نيسان، تقدم المشرعون في المملكة المتحدة باقتراح لتحسين الشفافية ومنع تضارب المصالح في إدارة الحسابات ومسك الدفاتر من خلال حث هيئة المنافسة والأسواق على منع شركات المحاسبة “الأربع الكبار” من تقديم خدمات استشارية للعملاء الذين تتولى مراجعة حساباتهم. يأتي هذا بعد إخفاقات التدقيق والمراجعة في شركة كاريليون للبناء ومتاجر التجزئة BHS، وتعهد ثلاث شركات من الأربع بالتخلص التدريجي من العمل الاستشاري الذي يُدار لصالح عملاء المراجعة والتدقيق.
كان تطور مهنة المحاسبة مدفوعا بإدراك حقيقة مفادها أن الإدارة المالية غير الحكيمة تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. لكن الإدارة البيئية الرعناء تشكل تهديدا بالغ الخطورة في أقل تقدير؛ ومن الواضح أن هناك حاجة لاتخاذ تدابير مماثلة لفرض متطلبات واضحة على القائمين على تنفيذ التقييمات ذات الصلة.
يتعين على الحكومات أن تنتبه إلى تضارب المصالح الذي سمح به النهج الحالي الذي تتبناه التقييمات البيئية الاستراتيجية، وأن تفرض التغيير الحقيقي. ولن يتسنى لنا التوفيق بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة الطبيعية إلا من خلال ضمان استناد قرارات الاستثمار في البنية الأساسية إلى تقييمات الأثر الصارمة الجديرة بالثقة.
المصدر: بروجيكت سنديكيت / ترجمة : إبراهيم محمد علي
*ماكسويل جوميرا هو مدير فرع خدمات التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية في بيئة الأمم المتحدة وزميل أصوات Aspen New Voices لعام 2018.