حين تحدثتُ في جلسة بعنوان “الأمن المائي”، في قمة “عين على الأرض” في أبوظبي، ظننت أنني أكرر معلومات أصبحت معروفة. لكنني اكتشفت أن ما يجب أن يعرفه العرب عن هذا الموضوع كثير جداً.
قلتُ إن تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية حول المياه أظهر أنه في وقت مبكر لا يتجاوز سنة 2015، وليس سنة 2025 كما كان الاعتقاد السائد، سيهبط معدل حصة الفرد العربي من المياه العذبة الى ما دون 500 متر مكعب في السنة، وهو ما يعتبر ندرة حادة.
سنة 2015، أي بعد ثلاث سنوات من اليوم، ستهبط حصة الفرد السنوية من المياه العذبة المتجددة الى 77 متراً مكعباً في السعودية و26 متراً مكعباً في الامارات وخمسة أمتار مكعبة في الكويت. هذه هي محدوديات الطبيعة، وكمية المياه التي على الأرض اليوم هي نفسها التي شربتها الدينوصورات قبل عشرات آلاف السنين. لكن هذه الكمية ستستمر في التضاؤل في المنطقة العربية بسبب آثار تغير المناخ، بينما يستمر السكان بالتزايد أضعافاً. الخيار المتبقي لكثير من البلدان هو سد الفجوة بتحلية مياه البحر، وهي عملية شديدة الكلفة وغالباً ملوثة.
مع هذا، فكمية المياه التي يهدرها الفرد للاستخدام الشخصي في بعض الدول التي تعتمد كلياً على التحلية، مثل دول الخليج وفي طليعتها الامارات والكويت والسعودية، هي الأعلى في العالم إذ تتجاوز 500 ليتر يومياً.
ومع هذا، تستمر ملاعب الغولف بالانتشار كالفطر، في بعض دول المنطقة الأكثر جفافاً، حيث يستهلك كل ملعب كمية من المياه العذبة تكفي لاحتياجات 16 ألف إنسان.
ومع هذا أيضاً، يتم انتاج الحليب ومشتقاته باستخدام أعلاف مروية بمياه جوفية غير متجددة تتضاءل يومياً. حتى أن احدى دول المنطقة الأشد جفافاً أصبحت من أكبر مصدري الألبان. طبعاً، يجب أن نعرف أن كل ليتر واحد من الحليب يحتاج الى ألف ليتر من المياه لانتاجه، معظمها يذهب لري الأعلاف من المياه الجوفية. وبالتأكيد يجب أن نعرف أنه ليس من الاستدامة في شيء أن نصدّر “المياه الأحفورية”، التي هي أكثر ندرة من “الوقود الأحفوري”.
يجب أن نعرف أنه بينما تستنفد الزراعة 85 في المئة من المياه العذبة في العالم العربي، لا تتجاوز كفاءة الري 30 في المئة، أي أننا نخسر 70 في المئة.
كما يجب أن نعرف أنه، في ما عدا بعض المحاولات المعزولة، تبقى 60 في المئة من مياه الصرف بلا معالجة، يعاد استخدام أقل من 40 في المئة منها.
لم أكن أتوقع أن تنشر صحف الامارات والخليج كلامي على صفحاتها الأولى في اليوم التالي. فما قلته لم يُضف جديداً إلى ما جاء في تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية عن المياه، الذي صدر قبل سنة ونُشرت نتائجه في وسائل الاعلام، العربية والعالمية. لكن يبدو أن منبر قمة أبوظبي أعطى الكلام وقعاً جديداً.
صحيفة “الاقتصادية” السعودية نقلت كلامي على صفحتها الأولى تحت عنوان “كارثة محدقة”. هذا العنوان أزعجني للوهلة الأولى، إذ وجدت فيه نوعاً من الاثارة. لكن يبدو أن للاثارة في الصحافة حسنات، إذا كانت تستند إلى حقائق، ولا بد أن هذا هو ما قصده محرر “الاقتصادية”. فقد أثار العنوان نقاشاً حاداً، تمثل في عشرات التعليقات على الصفحة الالكترونية للجريدة.
أبرز ما لفتني في هذه الردود واحد دعا إلى مواجهة المشكلة بتدابير عملية، منها “تركيب الحنفيات الذكية، وقف الهدر في شبكات التوزيع، معالجة مياه الصرف وإعادة استعمالها، تسعير عادل للمياه”. جاء رد على هذا الطرح من قارئ آخر، يقول إن المياه حق للبشر، لذا لا يجوز تسعيرها. فأجابه قارئ آخر: “مشكلتنا في الاسراف. لا تنسوا القول الكريم: لا تسرف ولو كنت على نهر جارٍ. الحل في تسعير المياه وفق شرائح ، فيتم تقديمها بالسعر الأدنى للكمية المعقولة المطلوبة لقضاء الحاجات، ويرتفع السعر تدريجاً مع زيادة الاستهلاك”. وأضاف آخر: “نحن نروي الحدائق بأغلى مياه محلاة، بدل استعمال مياه الصرف المعالجة. ونهدر مياهنا الجوفية على منتجات زراعية قليلة القيمة”.
ليس من المفيد في شيء خداع أنفسنا بالتبريرات الواهية لاستمرار أنماط الهدر والاسراف، مثل القول إن الطقس الحار يستدعي استخدام كمية أكبر من المياه. ففي مناطق أوستراليا الجافة، التي تعتمد على التحلية، يستخدم الفرد نصف كمية المياه التي يستخدمها الفرد في دول الخليج.
ولما كانت الزراعة هي المستهلك الأكبر للمياه في المنطقة، بنسبة 85 في المئة، وبمعدلات كفاءة متدنية جداً، فإدارة المياه تبدأ في ضبط عملية الانتاج الزراعي. وليس من الممكن تحقيق “أمن غذائي” على حساب خسارة “الأمن المائي”.
نعود من حيث بدأنا، جلسة الأمن المائي في قمة أبوظبي. سألت محاوري في الجلسة، وهو مسؤول في مؤسسة حكومية مختصة: هل حصل تقدم في ادارة المياه خلال عشر سنين، نستطيع إثباته بالأرقام، من حيث تخفيض الاستهلاك الفردي وتحسين الكفاءة، أم أن التطور الوحيد كان زيادة كميات المياه المحلاة من دون إدارة الطلب؟ أجاب: كنا خلال هذه الفترة نجري الدراسات ونضع المعايير.
كنت عائداً لتوي من كيوتو، حيث سمعت هذه الحكمة اليابانية: الخيال بلا عمل هو أحلام يقظة، بينما العمل بلا خيال كابوس. الدراسات ضرورية. لكن عندنا منها ما يكفي، ومعضلة المياه العربية حرجة لا تحتمل الانتظار. فلنضع خطة سريعة بناء على الحقائق التي نعرفها، ونبدأ بالعمل فوراً.
نجيب صعب