المنطقة العربية.. مفترق الأرض والمياه وتموضع جديد في معركة الأمن الغذائي

محمد التفراوتيمنذ 6 ساعاتآخر تحديث :
المنطقة العربية.. مفترق الأرض والمياه وتموضع جديد في معركة الأمن الغذائي

آفاق بيئية: محمد التفراوتي

في لحظة مفصلية من التاريخ البيئي العربي، تتقاطع خطوط التصحر والجفاف مع حدود الجغرافيا والسياسات، لتكشف أن معركة الأمن الغذائي لم تعد تخاض في الحقول فقط، بل في غرف القرار ومجالس التعاون الإقليمي،

احتضنت نواكشوط الدورة السادسة والثلاثين لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن البيئة، أعلى هيئة عربية لصياغة التوجهات الإقليمية في مجال البيئة والتنمية المستدامة. وقد شكل الاجتماع محطة مفصلية أعادت طرح سؤال المستقبل: هل تستطيع المنطقة العربية، بما تحمله من هشاشة مناخية وتنوع إيكولوجي، أن تتحول من ساحة تأثر إلى فضاء تأثير وقيادة في قضايا الأرض والمياه؟
و دعت ياسمين فؤاد، الأمينة التنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، في كلمتها أمام الوزراء، إلى إحياء روح التضامن العربي البيئي وتكثيف العمل الجماعي لاستعادة الأراضي ومواجهة الجفاف. وجاءت عبارتها المكثفة،  “الماء شريان الحياة للأرض”،  كصرخة تذكير بأن الأزمة لم تعد بيئية فقط، بل أصبحت اقتصادية وتنموية ووجودية. فعندما يختل توازن إدارة الموارد المائية، تتآكل خصوبة التربة، وتذبل المحاصيل، ويتراجع الأمن الغذائي، لتنعكس بذلك هشاشة الأرض على استقرار الإنسان.

لقد أبرزت المعطيات المقدمة خلال الاجتماع أن 40 في المائة من أراضي الكوكب متدهورة، بخسائر تقدر بـ900 مليار دولار سنويا، في مقابل عوائد مضاعفة تصل إلى 27 ضعفا لكل دولار يستثمر في استصلاح الأراضي. وهي أرقام تعيد تعريف فكرة “الاستثمار في البيئة” كخيار استراتيجي مربح، لا كعبئ مالي.
غير أن التحدي العربي لا يقف عند حدود الأرقام، بل في تحويل الإرادة السياسية إلى منظومات تنفيذية. فالمجلس الوزاري العربي، رغم رمزيته ومكانته داخل جامعة الدول العربية، يظل بحاجة إلى آليات متابعة ومساءلة تضمن انتقال القرارات من الورق إلى الحقول، ومن المنصات الخطابية إلى الأراضي القاحلة التي تنتظر الأمل والماء.
ورحبت فؤاد بالدور الريادي الذي تلعبه المملكة العربية السعودية، باعتبارها رئيسة الدورة السادسة عشرة لمؤتمر الأطراف في اتفاقية مكافحة التصحر (COP16)، خاصة في إطلاق الشراكة العالمية للتكيف مع الجفاف، التي جمعت التزامات مالية تفوق 12 مليار دولار حتى عام 2030، ومبادرة “Business4Land” التي تدخل القطاع الخاص في صميم معادلة استعادة الأراضي. هذه الدينامية تمثل مؤشرا على تحول نوعي في مقاربة قضايا البيئة من حقل المسؤولية الحكومية إلى فضاء الشراكة متعددة الأطراف.
وتطلع النقاش كذلك إلى مؤتمر الأطراف السابع عشر في أولان باتور، حيث شددت فؤاد على ضرورة أن تتصدر الدول العربية الملفات الثلاثة الكبرى. تكامل إدارة الأراضي والمياه، وتعبئة التمويل والاستثمار، وتعزيز التآزر بين اتفاقيات ريو الثلاث. فالتحدي لم يعد في التشخيص، بل في صياغة مشاريع قابلة للتمويل تحقق منافع مزدوجة للإنسان والنظم البيئية.
ولم تغفل المناقشات أهمية إشراك النساء والشباب والمجتمعات المحلية في صميم الحلول. فبينما تنتج النساء نصف غذاء العالم، لا يمتلكن سوى أقل من خمس الأراضي الزراعية، ما يعكس فجوة بنيوية لا يمكن تجاوزها دون سياسات إنصاف وتمكين حقيقية. فالمجتمعات التي تقصي نصف طاقتها لا يمكنها أن تبني أمنها الغذائي المستدام.
لقد عكست الجلسة الختامية بعدا رمزيا قويا حين أكدت فؤاد أن الأرض ليست ملكية بل أمانة، تسلمها الأجيال لبعضها البعض. عبارة تحمل في طياتها نقدا ضمنيا لسياسات الاستنزاف والتهميش البيئي، ودعوة لإعادة النظر في منظومة القيم التنموية التي ما زالت تقايض الطبيعة بالربح القصير الأمد.
وفي المحصلة، يمكن القول إن نواكشوط لم تكن مجرد محطة سياسية، بل مرآة لوعي عربي جديد يتشكل على مهل، وعي يدرك أن رهان المستقبل يمر عبر الأرض والماء، وأن تموضع العرب في معادلة الأمن الغذائي العالمي لن يتحقق إلا بإرادة إقليمية جريئة، وشراكات ذكية، وإدارة متكاملة للموارد تعيد للتربة خصوبتها وللإنسان ثقته في قدرته على استعادة الأمل من تحت رماد الجفاف.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!