آفاق بيئية: محمد التفراوتي
اختتمت اللجنة التحضيرية الثانية لاتفاقية التنوع البيولوجي في المناطق البحرية خارج نطاق الولاية الوطنية أعمالها بمقر الأمم المتحدة في نيويورك بعد أسبوعين من المفاوضات المكثفة، شارك فيها وفود حكومية من الدول الموقعة وغير الموقعة، إلى جانب وكالات أممية وهيئات دولية، وممثلين عن المجتمع المدني والعلماء والشعوب الأصلية، فضلا عن ممثلي المؤسسات الإقليمية لإدارة مصايد الأسماك.
يأتي هذا الاجتماع استكمالا للجنة التحضيرية الأولى التي انعقدت في أبريل الماضي، في إطار التحضير لدخول المعاهدة التاريخية حيز النفاذ بعد اعتمادها في يونيو 2023 بهدف حماية التنوع البيولوجي البحري في المناطق الواقعة خارج نطاق الولاية الوطنية، والتي تشكل نحو نصف سطح المحيطات العالمية وتتعرض لضغوط متزايدة من الصيد الجائر والتلوث وتغير المناخ. ويتوقع أن تدخل الاتفاقية حيز النفاذ في يناير 2026 بعد أن وصل عدد الدول المصادقة عليها إلى 54 دولة، مع تسجيل تصديقات جديدة من “كابو فيردي” و”سانت كيتس” و “نيفيس”، في حين يتوقع الحصول على الحد الأدنى المطلوب من 60 تصديقا قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل.
بناء الإطار المؤسسي وتشغيل الهيئات العلمية
شهدت اللجنة تحركات ملموسة نحو بناء الإطار المؤسسي للمعاهدة، حيث تم التركيز على تشكيل الهيئة العلمية والتقنية التي ستضطلع بمراجعة تقييمات الأثر البيئي والموافقة على المناطق البحرية المحمية الجديدة. ويعتبر تشغيل هذا المجلس منذ اليوم الأول عاملا حاسما لتحقيق الهدف العالمي “30×30” لحماية ثلاثين بالمئة من المحيطات بحلول عام 2030، وهو ما شدد عليه تحالف أعالي البحار باعتباره شرطا أساسيا لتفعيل المعاهدة بشكل فعال.
كما حظيت آلية تبادل المعلومات باهتمام كبير باعتبارها منصة مركزية للشفافية والتعاون بين الأطراف، غير أن التأخير في تفعيل هذه الآلية يثير مخاوف من تراجع الشفافية ويحد من قدرة الأطراف على الوفاء بالتزاماتها قبل انعقاد مؤتمر الأطراف الأول. ولذلك تم اقتراح ترتيبات مؤقتة تتيح البدء بتنفيذ الوظائف الأساسية فور دخول المعاهدة حيز النفاذ.
التمويل والتحديات المستمرة
في موضوع التمويل، أحرز تقدم ملحوظ خصوصا فيما يتعلق بدور مرفق البيئة العالمية والصندوق الخاص وصندوق التبرعات الاستئماني لدعم مشاركة الدول النامية، لكن الخلافات حول آليات الرقابة والإشراف على الصرف المالي ما زالت قائمة. تبقى الأسئلة حول كيفية ضمان تمويل مستدام وشامل يتيح تنفيذ الاتفاقية دون توقف، وخصوصا كيفية توحيد قواعد الإنفاق ومراقبة الأموال في ظل التنوع الكبير في مصادر التمويل. كما يستمر النقاش حول مدى مشاركة الدول المانحة في صياغة آليات التمويل، ومخاوف بعض الدول النامية من أن تؤثر هذه الآليات على سيادتها وقدرتها على تنفيذ برامجها الوطنية بحرية.
مشاركة المجتمع المدني والتنسيق مع الهيئات القائمة
تعد مشاركة المراقبين من المجتمع المدني، والشعوب الأصلية، والعلماء، والدول غير الأطراف، ومنظمات إدارة مصايد الأسماك الإقليمية من أبرز قضايا النقاش المثيرة للجدل. حيث اقترحت بعض الدول ترتيبات قد تحد من هذه المشاركة، مما يثير مخاوف من تقليل الشفافية والحد من إمكانية الاستفادة من الخبرات الفنية والاستشارية التي يقدمها هؤلاء المراقبون.
من جانبها، طالبت تحالفات مثل تحالف أعالي البحار بوضع قواعد واضحة تضمن مشاركة كاملة وفعالة من اليوم الأول، مؤكدة أن الشفافية والشمولية ليست خيارا بل ضرورة حتمية لضمان نجاح الاتفاقية وحماية التنوع البيولوجي البحري. في المقابل، يذكر بعض المندوبين أن الطريق ما زال طويلا لضمان تجهيز المؤسسات والتمويل والقواعد اللازمة لهذه المشاركة الشاملة، مما يضع تحديات إضافية أمام بدء العمل الفعلي.
شهدت المناقشات أيضا استعراض العلاقة بين المعاهدة والهيئات القائمة، لا سيما المنظمات الإقليمية لإدارة مصايد الأسماك، حيث أبدى الحاضرون استعدادا للتعاون والتنسيق لضمان تكامل السياسات البحرية وتعزيز فعالية المعاهدة في حماية المناطق البحرية خارج الولاية الوطنية.
و أثيرت الحاجة الملحة إلى وضع آليات عملية للتشاور والتنسيق بين معاهدة أعالي البحار وهذه الهيئات، بما يضمن تنفيذا مستداما ومتناسقا، ويمنع الازدواجية في الجهود التي قد تضعف نتائج الحماية. ومع ذلك، لا تزال هناك تساؤلات حول كيفية تحقيق هذا التكامل على أرض الواقع، خصوصا في ظل التنوع الكبير في آليات العمل بين الهيئات القائمة.
تحديات التنفيذ وآفاق المستقبل
يبقى القلق الأكبر في تأخر تشغيل الهيئات الرئيسية مثل الهيئة العلمية والتقنية وآلية تبادل المعلومات، إلى جانب الخلافات المستمرة حول التمويل ومشاركة المراقبين، حيث تمثل هذه التحديات نقاط ضعف جوهرية قد تؤثر سلبا على فعالية المعاهدة. ويبرز هنا التحدي الحقيقي المتمثل في ضمان جاهزية المؤسسات منذ اليوم الأول لتفعيل الاتفاقية، مع توفر آليات شفافة وممولة بشكل مستدام، إلى جانب وجود تكامل واضح مع الاتفاقيات الدولية القائمة لتفادي تكرار الجهود وضمان حماية فعلية للتنوع البيولوجي البحري.
ومن المقرر أن تستأنف اللجنة التحضيرية أعمالها في اجتماعها الثالث بين 23 مارس و2 أبريل 2026 لاستكمال الإطار المؤسسي والمالي والقانوني. وفي غضون ذلك، سيواصل تحالف أعالي البحار التعاون مع الحكومات وأصحاب المصلحة لضمان الحفاظ على الزخم وحماية الشمولية، ووضع أسس ثابتة للتنفيذ الفعال. كما من المتوقع تنظيم مؤتمر صحفي افتراضي وحدث احتفالي في 23 سبتمبر 2025 احتفاء بالتصديقات الجديدة ودخول الاتفاقية حيز النفاذ.
يبقى التأكيد على أن الاجتماعات التحضيرية ليست مكانا لاتخاذ قرارات رسمية، بل لتحديد التوصيات التي سيعتمدها مؤتمر الأطراف الأول، مما يجعل التحضير والتنسيق المبكر عاملا حاسما في ضمان أن توفر المعاهدة حماية حقيقية وفعالة للتنوع البيولوجي في أعالي البحار منذ اليوم الأول.
هل سننجح في حماية النصف الأزرق من كوكبنا؟
مع اقتراب دخول المعاهدة حيز التنفيذ، تقف البشرية أمام اختبار أخلاقي ومؤسسي غير مسبوق. الاتفاقية قد تكون أعظم إنجاز قانوني بيئي منذ اتفاق باريس للمناخ، لكن بدون هياكل تشغيلية متماسكة، وتمويل مستدام، وشمولية حقيقية، قد تتحول إلى نمر من ورق.
اللجنة التحضيرية الثالثة (مارس 2026) ستكون الفرصة الأخيرة لتصحيح المسار، وحسم الخيارات، وبناء المعاهدة من الداخل، لا على الورق فقط. فحماية التنوع البيولوجي في أعالي البحار لم تعد مسألة بيئية فحسب، بل قضية عدالة كوكبية وتضامن بين الأجيال.