حوار مع معالي الأستاذ الدكتور محمد ولد أعمر المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)
آفاق بيئية: محمد التفراوتي
في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، والتي تعاد فيها صياغة موازين القوة على أسس معرفية وتكنولوجية، لم يعد مقبولا أن تبقى المجتمعات العربية على هامش المعركة الكبرى التي تدور رحاها في فضاءات الذكاء الاصطناعي، والابتكار العلمي، وصناعة القرار القائم على المعرفة. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى خلق هيئة عربية جامعة، تتجاوز الطابع المناسباتي أو الخطابي، ليجسد مشروعا استراتيجيا يربط بين البحث العلمي والإعلام في إطار مؤسسي وتكاملي يخدم أهداف التنمية والنهضة.
إن الإعلام العلمي، في هذا السياق، ليس ترفا أو أداة للترويج المعرفي السطحي، بل هو ضرورة حضارية واستراتيجية. إنه الواجهة التي من خلالها تترجم إنجازات المختبر إلى سياسات عمومية، وتحول الاكتشافات العلمية إلى وعي مجتمعي، ويقوى الرصيد المعرفي للأمة في معركة المصير.
ولذلك، فإن فلسفة بناء القدرات الإعلامية العلمية في العالم العربي تنطلق من قناعة محورية: أن السيادة المعرفية لا تتحقق إلا إذا تلاقحت جهود العلماء والإعلاميين والمربين وصناع القرار في فضاء مؤسسي يؤمن بالبحث العلمي لا كترف، بل كشرط من شروط البقاء والاستقلال الحضاري.
ماذا نريد من هذا البرنامج ؟ نريد تقريب الإعلامي من الباحث، وإرساء جسور ثقة وتعاون بدل التوجس أو القطيعة. نريد تدريب جيل جديد من الإعلاميين العلميين القادرين على تبسيط المفاهيم دون تسطيح، وعلى الترجمة الثقافية للمعرفة العلمية بما يراعي السياق العربي. نريد إشاعة المعلومة الصادقة في زمن المعلومة المفبركة، وتعزيز مناعة الجمهور ضد التضليل العلمي والتقني. نريد تعزيز السيادة العلمية كمفهوم استراتيجي، لا يكتفي بتوطين التكنولوجيا، بل بتوطين التفكير النقدي والمنهج العلمي. نريد بناء منظومة عربية للتواصل العلمي، تخاطب الناس بلغتهم وتطلعاتهم، دون استلاب أو اجترار لنماذج غير قابلة للاستنبات في بيئتنا.
وفي هذا السياق، أجرينا حوارا علميا تحليليا حوار مع معالي الأستاذ الدكتور محمد ولد أعمر المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) قصد تعميق النظر في هذه الفلسفة، والوقوف عند المبادرات والرهانات المطروحة لبناء هذه الهيئة المرجوة.
السؤال 1: في ضوء التسارع العلمي والتكنولوجي، ما مبررات التفكير في تأسيس كيان يدمج بين الإعلام والعلم في السياق العربي؟
الجواب: تكمن المبررات في جملة من التحديات البنيوية، أبرزها تفشي الأمية العلمية، وانفصال المعرفة البحثية عن المجال العمومي. هذا التباعد بين المنتج العلمي والمتلقي المجتمعي يخلق فراغا معرفيا تملؤه أحيانا معلومات مغلوطة أو روايات لا تستند إلى أساس علمي. من هنا، يصبح من الضروري بلورة هيئة مؤسسية قادرة على إعادة ترتيب العلاقة بين المعرفة العلمية ومجالات التداول الإعلامي، بما يحقق نوعا من السيادة المعرفية، ويفعل دور العلم في صياغة الوعي الجمعي.ويأتي ذلك إيضا تجسيدا لدور الألكسو المحوري في متابعة تنفيذ الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والابتكار التي يأتي نشر الثقافة العلمية في الدول العربية على رأس أولوياتها.
السؤال 2: ما هي الفلسفة الجوهرية الكامنة وراء مشروع “تعزيز وبناء القدرات الإعلامية العلمية” في العالم العربي؟
الجواب: تقوم هذه الفلسفة على ثلاثة مرتكزات متكاملة:
أولا، تحرير الإعلام من التناول السطحي للعلم، من خلال تمكينه بمفاتيح التحليل والتفسير العلمي.
ثانيا، تقريب المجتمع من فضاء البحث العلمي، عبر وساطة إعلامية متخصصة تسعى إلى “أنسنة” المفاهيم العلمية، لا تفكيكها فقط. و ثالثا، تحصين المجال العمومي من التضليل، من خلال إنتاج محتوى علمي موثوق، قابل للتداول الجماهيري، يحترم المعايير العلمية ولا يفرط في جاذبية العرض.
السؤال 3: كيف يمكن للإعلام العلمي أن يسهم في تجاوز الأمية العلمية وبناء مجتمع معرفي؟
الجواب: الإعلام العلمي، حين يمارس بمهنية ووعي وظيفي، يصبح أداة مركزية لـ تحرير الوعي العربي من التلقي السلبي للمعرفة، ويعزز قدرة الأفراد على التمييز بين الرأي والمعرفة، بين الحقيقة والمزاعم. إنه لا يبسط فقط، بل يعمق الفهم، ويعيد الثقة في المنهج العلمي، ويشكل أحد أهم روافد التربية غير النظامية في مجتمعاتنا.
السؤال 4: ما موقع الباحث العلمي في هذا التصور؟ وهل ثمة ضرورة لإشراكه؟
الجواب: الباحث ليس فقط مصدر المعلومة، بل شريك أساسي في صياغة السردية العلمية. إشراكه في الفضاء الإعلامي يسهم في كسر الطابع النخبوي للمعرفة، ويعزز التفاعل بين البحث والمجتمع. إن انفتاح العلماء على الإعلام من شأنه أن يعيد موضعة العلم في المركز الثقافي للمجتمعات العربية، ويمنح البحث العلمي بعدا اجتماعيا وإنسانيًا كان مفقودا.
السؤال 5: هل يمكن اعتبار الإعلام العلمي أداة استراتيجية لتحقيق التنمية؟
الجواب: بلا شك. الإعلام العلمي ليس وسيطا محايدا فحسب، بل فاعل تنموي يعيد تشكيل أولويات المجتمع من خلال نشر المعرفة العلمية، وتحفيز الممارسات المبنية على الدليل، سواء في الصحة، البيئة، الطاقة أو التكنولوجيا. إن إدماج الإعلام العلمي في السياسات العمومية يمثل شرطا أساسيا لـ خلق ثقافة إنتاج معرفي تؤسس للتنمية المستدامة.
السؤال 6: كيف تسهم مبادرات مثل برنامج الألكسو في هذا السياق؟
الجواب: إن مبادرة الألكسو بالتعاون مع اليونسكو ومعهد الإعلام الأردني تمثل تحركا بنيويا نحو التأسيس لمجتمع إعلامي علمي عربي. هي ليست مجرد دورة تدريبية، بل تحول في التصور الاستراتيجي، قائم على إدماج البعد العلمي في أجندة العمل الإعلامي العربي. إنها أيضا محاولة واعية لبناء كتلة حرجة من الإعلاميين القادرين على الاشتباك مع القضايا المعرفية الكبرى بلغة تراعي الدقة والمهنية والبعد الإنساني.
السؤال 7: في ظل تعدد المصادر وتفشي التضليل، ما موقع الإعلام العلمي من معركة الحقيقة؟
الجواب: الإعلام العلمي هو الحصن الأخير في مواجهة التفاهة المعرفية والزيف المعلوماتي. إنه المعادل الموضوعي للعقلانية في زمن الارتباك. كلما تمكنا من تأهيل إعلاميين علميين عرب قادرين على الاشتباك النقدي مع الظواهر العلمية والمعلومات الرقمية، كلما أسسنا لمجتمع يقاوم الجهل بالشراكة، لا بالوصاية.