آفاق بيئية: محمد التفراوتي
تتصدر منطقة البحر الأبيض المتوسط المشهد العالمي في تعزيز مفهوم الاقتصاد الأزرق المستدام (SBE)، من خلال نموذج فريد يجمع بين التعاون الإقليمي الفعال، التمويل الاستراتيجي، والابتكار في السياسات والتقنيات. جاء ذلك خلال ملتقى رفيع المستوى عقد في بروكسل وبرشلونة، شارك فيه ممثلون من 43 دولة أورومتوسطية، حيث تم استعراض التقدم الكبير منذ اعتماد إعلان وزراء الاحاد من أجل المتوسط حول الاقتصاد الأزرق المستدام عام 2021، والذي وضع خارطة طريق للتعاون متعدد القطاعات لتحقيق تنمية مستدامة وحماية البيئة البحرية في حوض المتوسط.
على مدار العقد الماضي، شهد الاقتصاد الأزرق في البحر المتوسط زخما متزايدا بفضل الإرادة السياسية القوية والتنسيق المستمر بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب تبني استراتيجيات تمويل مبتكرة ترجمت الالتزامات السياسية إلى مشاريع عملية قابلة للتنفيذ، وذات تأثير مستدام على المجتمعات والأنظمة البيئية البحرية.
ومن أبرز أدوات التمويل الناجحة في المنطقة “الشراكة الزرقاء للمتوسط” (Blue Mediterranean Partnership – BMP)، التي أطلقت بدعم من المفوضية الأوروبية، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، والبنك الأوروبي للاستثمار، والوكالة الفرنسية للتنمية، بالإضافة إلى عدد من الدول المانحة. تستهدف الشراكة تعزيز الاستثمارات في مشاريع الاقتصاد الأزرق الكبرى، مع ضمان دراسات جدوى دقيقة لفك رموز قابلية التمويل والتنفيذ، مع انطلاقة المشاريع الأولى في مصر، الأردن، والمغرب.
المغرب: ركيزة أساسية في تعزيز الاقتصاد الأزرق المستدام
يحتل المغرب مكانة مركزية ضمن جهود الشراكة الزرقاء للمتوسط، كواحد من الدول الرائدة في المنطقة التي تستفيد من تمويلات ضخمة لتطوير الاقتصاد الأزرق المستدام. ويركز المغرب على مجالات استراتيجية تشمل تطوير الاستزراع المائي، والطاقة البحرية المتجددة، وتحسين البنية التحتية للموانئ بما يتوافق مع معايير الاستدامة البيئية.
وتلعب الوكالة الوطنية لتنمية الاستزراع المائي (ANDA) دورا حيويا في تنفيذ مشاريع ذات جدوى اقتصادية وبيئية، تساهم في تعزيز الأمن الغذائي وخلق فرص عمل مستدامة في المناطق الساحلية. كما يشهد المغرب اهتماما متزايدا بمبادرات إزالة الكربون من القطاعات البحرية وتطوير تقنيات النقل البحري منخفضة الانبعاثات.
تعكس مشاركة المغرب التزامه القوي بتحقيق الأهداف العالمية المتعلقة بحماية البيئة البحرية والتكيف مع تغير المناخ، مما يجعله نموذجا يحتذى به في المنطقة من حيث دمج الاستدامة الاقتصادية مع المحافظة على التنوع البيولوجي.
التوافق مع الأهداف الدولية
يتوافق نموذج البحر المتوسط مع الأهداف والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية المحيطات والتنوع البيولوجي، منها الهدف الرابع عشر من أهداف التنمية المستدامة، و اتفاقيات الأمم المتحدة لتغير المناخ، اتفاقية التنوع البيولوجي، عقد الأمم المتحدة للعقد الأزرق للمحيطات، والمعاهدة الدولية المرتقبة لمكافحة التلوث البلاستيكي.
يركز النموذج الإقليمي على دفع الانتقال نحو اقتصاد أزرق أخضر مستدام، من خلال استعادة النظم البيئية البحرية، وتعزيز صمودها أمام تغير المناخ، والانتقال إلى اقتصاد دائري منخفض الكربون، مع ضمان العدالة الاجتماعية والاقتصادية عبر دول حوض البحر المتوسط.
أهداف الملتقى
و ركز الملتقى على تعزيز الحوكمة متعددة الأطراف من خلال دمج السياسات عبر القطاعات المختلفة لضمان تناغم الجهود والالتزام بالمعايير الدولية المتعلقة بالاقتصاد الأزرق المستدام. كما سعى إلى تسريع وتيرة الاستثمارات في مشاريع الاقتصاد الأزرق وجعلها جاهزة للتمويل من قبل المؤسسات المالية الدولية الكبرى، مع تقديم نموذج البحر المتوسط كنموذج عالمي قابل للتكرار في مناطق أخرى حول العالم. بالإضافة إلى ذلك، عمل الملتقى على تعزيز القدرة على التكيف البيئي واستعادة النظم البحرية عبر استخدام أدوات متطورة لتخطيط الفضاءات البحرية بما يضمن حماية الموارد البحرية وتحقيق الاستدامة.
و قال السيد كوستاس كاديس، مفوض الاتحاد الأوروبي لمصائد الأسماك أن “البحر المتوسط يمثل نموذجا يحتذى به عالميا في التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية النظم البيئية البحرية.”
وأشارت السيدة سارة آجيسن، نائبة رئيس حكومة إسبانيا أن “مساهمتنا في الشراكة الزرقاء تؤكد التزامنا بقيادة التحول البيئي نحو اقتصاد أزرق مستدام.”
جلسات العمل وأهم النقاط النقاشية
شهد الملتقى مجموعة من جلسات العمل المكثفة التي ناقشت مختلف جوانب الاقتصاد الأزرق المستدام. فقد تم التركيز على تمويل الاقتصاد الأزرق وريادة الأعمال، حيث استعرض المشاركون دور الصناديق الدولية والبرامج المتخصصة مثل BlueInvest وBlueInvest Africa، التي تسهم بشكل فعال في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتوفير البيئة الاستثمارية المناسبة لجذب المزيد من الاستثمارات.
كما تطرقت جلسات الابتكار والتكنولوجيا إلى تجارب دول أورومتوسطية مثل إسبانيا واليونان في تحويل الموانئ إلى مراكز صديقة للبيئة، وتطوير مصادر الطاقة البحرية المتجددة، بالإضافة إلى استراتيجيات الاستزراع المائي وإجراءات إزالة الكربون من القطاع البحري، مع التركيز على تعزيز الحلول التقنية الحديثة والمستدامة. وتم عرض مشاريع رائدة في في محور مكافحة التلوث وحماية البيئة البحرية، مثل مبادرة Plastic Busters بقيادة جامعة سيينا الإيطالية، التي تعمل على مواجهة تحديات النفايات البلاستيكية في البحر المتوسط، ما يعكس التزام المنطقة بحماية الموارد البحرية والمحافظة على التنوع البيولوجي.
النتائج المحققة من الملتقى
أسفر الملتقى عن نتائج مهمة، أبرزها تعزيز الحوكمة متعددة الأطراف وتفعيل الشراكة المالية الشاملة عبر الشراكة الزرقاء للمتوسط، مما ساهم في توسيع نطاق الاستثمارات المستدامة في المنطقة. كما تم الاتفاق على تعميم نموذج البحر المتوسط في مناطق أخرى حول العالم، مع التركيز على استعادة النظم البيئية وتعزيز الاقتصاد الدائري الذي يدعم الاستدامة البيئية والاقتصادية. وزاد التنسيق بين المؤسسات الدولية والإقليمية والمحلية، ما يعزز الجهود الجماعية لتحقيق التنمية المستدامة في الاقتصاد الأزرق، ويعزز القدرة على مواجهة التحديات البيئية مثل تغير المناخ والتلوث البحري، ضمن إطار تعاون إقليمي متكامل وفعال.
يذكر أن نموذج البحر المتوسط في الاقتصاد الأزرق المستدام يثبت أن التعاون الإقليمي الذكي والاستثمار المستهدف يمكن أن يحققا توازناً حقيقيا بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة البحرية، مما يجعله مثالاً يحتذى به عالمياً في مواجهة تحديات التغير المناخي والتدهور البيئي.