آفاق بيئية: محمد التفراوتي
تعتبر قصة حي بن يقظان لابن طفيل من أبرز النصوص الفلسفية الرمزية في التراث العربي الإسلامي، وتحمل في طياتها أبعادا متعددة، فلسفية، عقلية، تربوية، وروحية. ومن بين هذه الأبعاد يبرز البعد الصوفي بوضوح، ويمكن تلخيصه في عدة مناحي.
السير نحو المعرفة الحقيقية
حي بن يقظان يسلك طريقا تصاعديا في المعرفة، يبدأ من الحواس، يمر بالعقل، وينتهي بالمعرفة الروحية، وهي ذاتها مراحل السير الصوفي وهي المجاهدة، إذ يبدأ حي بمراقبة الطبيعة ومحاولة فهمها. ثم المكاشفة حيث يصل إلى تأملات في النفس والكون. و كذا المشاهدة من خلال بلوغ مرحلة التوحد مع الحق، حيث يفنى عن ذاته ويشعر بالاتصال بالله.
العزلة والتأمل
يختار الصوفي العزلة عن الناس ليصفو قلبه ويتأمل في خلق الله. عاش حي بن يقظان في جزيرة منعزلة منذ طفولته، بعيدا عن البشر، وتعلم عن طريق التأمل والتجربة، لا عن طريق النقل أو التعليم المباشر، وهذا يمثل رمزية السلوك الصوفي في طلب الحق دون وسائط.
الفناء والبقاء
في أواخر القصة، يصل حي بن يقظان إلى حالة من الفناء في الذات الإلهية، وهي قمة التجربة الصوفية، حيث لا يرى إلا الله تعالى، ويغيب عن إدراك الذات والوجود المادي، ليبقى في البقاء بالله.
الزهد في الدنيا
حي بن يقظان لا يهتم بالماديات، بل يعيش زاهدا، مكتفيا بالقليل، متأملا في العالم لا من أجل التملك، بل من أجل فهم الخالق من خلال المخلوقات، وهذا جوهر الزهد الصوفي.
العجز عن التعبير عن الحقيقة العليا
حين يلتقي حي بن يقظان بالبشر لاحقا، يجد صعوبة في إبلاغهم بالحقيقة التي وصل إليها، لأن تجربته روحية وذوقية، لا تنقل بالكلام، “من ذاق عرف”.
يشار أن قصة “حي بن يقظان” تقدم تجربة روحية عقلانية تمزج فيها الصوفية بالفلسفة، وهي تعبير راق عن إمكانية وصول الإنسان إلى الحقيقة من خلال التأمل، والعقل، والتطهر الداخلي، بما ينسجم مع روح التصوف الإسلامي، خاصة عند فلاسفة الأندلس والمتصوفة الكبار.
يذكر أن قصة :حي بن يقظان” هي واحدة من أشهر القصص الفلسفية في التراث العربي الإسلامي، كتبها الفيلسوف الأندلسي أبو بكر محمد بن طفيل في القرن الثاني عشر الميلادي (القرن السادس الهجري). تعد هذه القصة من أوائل الأعمال التي مزجت بين الفلسفة والعلم والأدب في قالب قصصي رمزي. تحكي القصة عن حي بن يقظان، وهو طفل نشأ وحده في جزيرة معزولة دون أب أو أم، وتروى الرواية بطريقتين. إما أنه ولد في الجزيرة من غير أب وأم (خلقه الله مباشرة). أو أنه نقل إليها وهو رضيع لأسباب سياسية.ربته ظبية منحته الحليب والعطف، ونشأ في الطبيعة متأملا الكائنات والكون من حوله، معتمدا على التجربة والملاحظة والعقل لفهم الحياة والطبيعة، وبدأ شيئا فشيئا في اكتشاف القوانين الطبيعية. توصل بعقله إلى الإيمان بـوجود الخالق دون أن يتعلم من بشر أو كتاب سماوي. يلتقي لاحقا، بشخص آخر يدعى أبسال، وهو رجل متدين جاء من جزيرة مجاورة، ويتعرف من خلاله على الدين والشرائع، ويكتشف أن ما وصل إليه بعقله يتوافق مع ما جاء به الدين. و تؤكد القصة على قدرة العقل البشري على الوصول إلى الحقيقة والمعرفة دون الحاجة إلى تعليم مباشر.و تدعو إلى التأمل والتفكر، وتبرز العلاقة بين العقل والدين.
تعد من النصوص التأسيسية للفكر الفلسفي العقلاني في الإسلام، وأثرت لاحقا في الفكر الأوروبي، حتى إن الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو استلهمها في روايته الشهيرة “روبنسون كروزو”.