مقاومة الإقطاع الرقمي

محمد التفراوتي10 فبراير 2025آخر تحديث :
Chip Somodevilla/Getty Images
Chip Somodevilla/Getty Images

آفاق بيئية : ماريانا مازوكاتو*

لندن ــ تأتي قمة عمل الذكاء الاصطناعي هذا الشهر في باريس عند منعطف حاسم في تطور الذكاء الاصطناعي. القضية المطروحة ليست ما إذا كانت أوروبا قادرة على منافسة الصين والولايات المتحدة في سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي؛ بل ما إذا كان بوسع الأوروبيين أن يحملوا لواء ريادة نهج مختلف يضع القيمة العامة في صميم التطور التكنولوجي والحوكمة. تتمثل المهمة في الابتعاد عن الإقطاع الرقمي، وهو المصطلح الذي صغته شخصيا في عام 2019 لوصف نموذج المنصات الرقمية المهيمنة القائم على استخراج الريع.

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد قطاع آخر، بل هو تكنولوجيا ذات أغراض عامة ستشكل قطاعات الاقتصاد كافة. وهذا يعني أنه إما أن يخلق قيمة هائلة أو يتسبب في إحداث أضرار جسيمة. برغم أن كثيرين من المعلقين يتحدثون عن الذكاء الاصطناعي كما لو كان تكنولوجيا محايدة، فإن هذا يشكل استخفافا بقوته الاقتصادية الجوهرية. فحتى لو كان بناء الذكاء الاصطناعي مجانيا، فإنه يحتاج إلى من يُـشَـغِّـله وينشره، وهذا يتطلب الوصول إلى منصات الحوسبة السحابية التي تتحكم في الوصول ــ مثل Amazon Web Services، وMicrosoft Azure، وGoogle Cloud.

هذه التبعية تجعل توجيه تطور التكنولوجيا نحو الصالح العام أشد إلحاحا من أي وقت مضى. السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان لزاما علينا تنظيم الذكاء الاصطناعي، بل كيف نُـشَـكِّـل أسواق إبداعات الذكاء الاصطناعي. بدلا من تنظيم هذا القطاع أو فرض ضرائب عليه بعد توظيفه بالفعل، يتعين علينا أن نعمل على إنشاء نظام بيئي غير مركزي يحكم الإبداع بما يخدم الصالح العام.

يُظهر تاريخ الإبداع التكنولوجي ماهية الرهان وحجمه. فكما زعمت في كتابي “دولة ريادة الأعمال”، جاءت تكنولوجيات عديدة من تلك التي نستخدمها كل يوم نتيجة للاستثمار العام الجماعي. كيف كانت شركة مثل جوجل لتعمل بدون شبكة الإنترنت التي مولتها وكالة DARPA (وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة)؟ كيف كانت شركة Uber (أوبر) لتعمل بدون نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي مولته البحرية الأمريكية؟ وكيف كانت شركة Apple (آبل) لتعمل بدون تكنولوجيا الشاشة التي تعمل باللمس التي مولتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) و Siriالتي مولتها DARPA؟

الواقع أن الشركات التي استفادت من هذه الاستثمارات العامة ــ بينما تتهرب في كثير من الأحيان من مساهماتها الضريبية ــ تستخدم الآن ريعها المفرط لاستنزاف المواهب من المؤسسات العامة ذاتها التي جعلت نجاحها في حكم الممكن. تتجسد هذه النزعة الطفيلية في أوضح صورها في “إدارة الكفاءة الحكومية” (DOGE) بقيادة إيلون ماسك، والتي تدعو إلى قطع برامج التمويل الحكومي التي سمحت لشركة Tesla (تسلا) بالاستفادة من 4.9 مليار دولار من إعانات الدعم الحكومي.

هذا النقص في قدرة الدولة من شأنه أن يجعل تنظيم التكنولوجيات الجديدة بما يخدم المصلحة العامة أمرا متزايد الصعوبة. لقد استُـنزِفَت الدولة بالفعل من الخبرات، بسبب أجور القطاع الخاص الأعلى فضلا عن عقود من الزمن من الاستعانة بمصادر خارجية للاستشارات الخاصة (وهو ما أطلقنا عليه أنا وروزي كولينجتون مسمى “الخدعة الكبرى”). ماذا قد يحدث عندما تتركز معظم المعرفة التكنولوجية في خمس شركات خاصة فقط؟ بدلا من الانتظار لاكتشاف ذلك، يتعين علينا أن نتدخل الآن لتنظيم الذكاء الاصطناعي بطريقة ديناميكية وقابلة للتكيف، بينما لا تزال مجموعة تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وآليات تسييل الخدمات المتنوعة في تطور.

في مشروع بحثي حديث في معهد كلية لندن الجامعية للإبداع والأغراض العامة، ألقيت أنا وزملائي نظرة أخرى على الإقطاع الرقمي والحاجة إلى التمييز بين خلق القيمة واستخراج القيمة في مجال الذكاء الاصطناعي ــ وهو ما نسميه “الريع الخوارزمي”. وقد أوضحنا أن منصات مثل Facebook (فيسبوك) وGoogle (جوجل) تطورت بطرق تركز على “ريع الاهتمام”. فبينما يجري التلاعب بتجربة المستخدمين لتعظيم الربح، تُـحشى الخلاصات التي يتلقونها بالإعلانات والمحتوى “الموصى به” الذي يسبب الإدمان في عملية وصفها الصحفي الكندي كوري دوكتورو بمصطلح مزخرف، “enshittification” (تَـفَـسُّـخ المحتوى). لقد أصبح التنقل اللانهائي داخل المحتوى، والإشعارات التي لا تتوقف، والخوارزميات المصممة لتعظيم “التفاعل” من خلال عرض محتوى ضار وأنشطة غير قانونية مُـخـتَـلَف عليها، هو القاعدة.

قد تتبع أنظمة الذكاء الاصطناعي المسار الاستخراجي ذاته فتشحن هذا السلوك الساعي إلى الريع بإفراط، على سبيل المثال، من خلال طلب الدفع مقابل الوصول إلى معلومات أساسية، أو خصوصية البيانات، أو الأمان على الإنترنت، أو التحرر من الإعلانات، أو القوائم الأساسية للأعمال التجارية الصغيرة في عمليات البحث عن المعلومات العالمية. ولأن المنصات تخفي حاليا خوارزمياتها وآليات تخصيص الاهتمام (مصادر “ريع الاهتمام الخوارزمي”)، فإن مفتاح تنظيم القطاع، كما هي الحال في معالجة تغير المناخ، يتمثل في إجبار المنصات الرقمية التي تتحكم في الوصول على الكشف عن كيفية استخدام خوارزمياتها. بعد ذلك، ينبغي دمج هذه المعلومات في معايير إعداد التقارير لكل المنصات الرقمية.

على نحو مماثل، تُـخفي شركات تطوير الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI وAnthropic، بين أمور أخرى، مصادر بيانات التدريب التي تستخدمها؛ وما هي الحواجز الوقائية التي وضعتها على نماذجها؛ وكيف تفرض شروط الخدمة التي تقدمها؛ والأضرار التي تُـحـدِثها منتجاتها في نهاية المطاف (مثل الاستخدام الإدماني والوصول دون السن القانونية)؛ ومدى استخدام منصاتها لتحقيق الدخل النقدي باستغلال الانتباه البصري من جانب المستخدمين في مختلف أنحاء العالم من خلال إعلانات موجهة. علاوة على ذلك، يضيف التأثير البيئي الضخم والمتنامي الذي يخلفه الذكاء الاصطناعي مستوى آخر من الإلحاح إلى هذا التحدي. فقد ارتفعت الانبعاثات الغازية التي تصدرها شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى، الأمر الذي دفع وكالة الطاقة الدولية إلى التحذير من أن “استهلاك الكهرباء العالمي من جانب مراكز البيانات، والذكاء الاصطناعي، وقطاع العملات الرقمية المشفرة قد يتضاعف بحلول عام 2026”.

ما يدعو إلى التفاؤل أن تطورات حديثة تشير إلى توفر مسارات بديلة. يبدو أن DeepSeek، شركة الذكاء الاصطناعي الصينية التي تسببت في تراجع عدد كبير من أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية لفترة وجيزة في أواخر يناير/كانون الأول الماضي، أثبتت إمكانية تحقيق أداء مماثل بقدر أقل كثيرا من الطاقة الحاسوبية والطاقة الكهربائية. فهل من الممكن أن تساعد أساليب أكثر كفاءة في تطوير الذكاء الاصطناعي في كسر القبضة الخانقة التي فرضتها شركات الحوسبة السحابية الكبرى من خلال سيطرتها على موارد الحوسبة الهائلة؟

في حين أنه من السابق للأوان أن نُـجـزِم بما إذا كان الإنجاز الخارق الذي حققته شركة DeepSeek ليؤدي إلى إعادة هيكلة السوق، فإنه يذكرنا بأن الإبداع على مستوى البرمجيات لا يزال في حكم الممكن وضروريا لمعالجة التأثير البيئي الذي يخلفه الذكاء الاصطناعي.

وكما زعمنا أنا وجابرييلا راموس من منظمة اليونسكو، من الممكن أن يعمل الذكاء الاصطناعي على تحسين حياتنا بطرق عديدة، من تحسين إنتاج الغذاء إلى تعزيز القدرة على الصمود في مواجهة الكوارث الطبيعية. يرى القادة الأوروبيون من ماريو دراجي إلى أورسولا فون دير لاين وكريستين لاجارد أن الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية لإنعاش الإنتاجية الأوروبية. ولكن ما لم يتصدوا لطبيعة الإقطاع الرقمي، والسلوك الاستخراجي الذي يقوم عليه تطوير نموذج الذكاء الاصطناعي، والافتقار الحالي إلى لقدرة التنظيمية في القطاع العام، فإن أي محاولة لإطلاق العنان لنمو أكثر قوة واستدامة ستتحطم على صخور فجوات تفاوت جديدة أشد عمقا. يتمثل أحد المسارات المحتملة للمضي قدما في “EuroStack”، وهي مبادرة مستقلة لتشييد بنية أساسية رقمية تشمل الحوسبة السحابية، والرقائق الإلكترونية المتقدمة، والذكاء الاصطناعي والبيانات، وجميعها تُـحـكَـم على أنها سلع عامة وليس من خلال مؤسسات احتكارية.

لا يتعلق الأمر بالاختيار بين الإبداع والتنظيم، ولا يدور حول إدارة التطور التكنولوجي من الأعلى إلى الأسفل. بل يتعلق بخلق حوافز وشروط لتوجيه الأسواق نحو تحقيق النتائج التي نريدها كمجتمع. يتعين علينا أن نستعيد الذكاء الاصطناعي بحيث يعمل على تزويدنا بقيمة عامة، بدلا من أن يتحول إلى آلة أخرى لاستخراج الريع. وتقدم قمة باريس الفرصة لاستعراض هذه الرؤية البديلة.

 ترجمة: إبراهيم محمد علي        

ماريانا مازوكاتو: أستاذة اقتصاد الإبداع والقيمة العامة في كلية لندن الجامعية، أحدث مؤلفاتها كتاب “اقتصاد المهام: دليل طَموح لتغيير الرأسمالية” (Penguin Books, 2022).

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!