آفاق بيئية: بنيامين شرايبر؛ ريتشارد ميهيجو؛ آن ليندستراند*
جنيف ــ تنفس العالم الصعداء عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية في مايو/أيار 2023 أن مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) لم يعد يشكل حالة طوارئ على مستوى الصحة العامة تستأهل الاهتمام الدولي. ولكن لا مجال للشعور بالرضا عن الذات والتخلي عن الحذر. كانت الجائحة تمثل تحذيرا عاجلا بشأن ضعف الأنظمة الصحية وعملت كحافز لتعزيزها قبل ظهور متغير جديد محتمل أو ظهور عامل ممرض جديد.
قَـدَّمَـت لنا التحديات التي أحاطت بتوصيل اللقاحات، على وجه الخصوص، بعض الرؤى حول أسباب نجاح أي حملة صحية. على وجه التحديد، أظهرت البلدان الأدنى دخلا كيف يمكن الوصول إلى الناس حيثما كانوا باستخدام أساليب مبتكرة ومصممة خصيصا والتي كانت تتطلب غالبا التعاون بين الحكومات الوطنية، والمنظمات المحلية، والمجتمعات المعرضة للخطر. تزودنا تجربة هذه البلدان بدروس بالغة الأهمية بينما يستعد العالم لاستقبال الجائحة التالية.
مثلها كمثل نظيراتها الأكثر ثراء، اضطرت البلدان الأدنى دخلا إلى تطعيم سكانها البالغين ضد كوفيد-19 على جناح السرعة. وكان هذا يعني الوصول إلى مجموعات سكانية أعرض من تلك التي يمكن أن تخدمها برامج تطعيم الأطفال الحالية، في حين تستهدف أيضا أولئك الذين هم في أمس الحاجة إليها: العاملين في مجال الرعاية الصحية، والأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة، وكبار السن.
لكن البلدان الأدنى دخلا تواجه تحديات فريدة من نوعها. فبسبب قومية اللقاحات وغيرها من العوائق، لم يحصل كثير منها على كميات مؤثرة من الجرعات إلا في وقت متأخر كثيرا عن البلدان المرتفعة الدخل، مما أدى إلى تأخير حملات التحصين لديها. كما أفضت ندرة الموارد المالية، إلى جانب أوجه الضعف التي تعيب الأنظمة الصحية الوطنية، إلى إعاقة استهلاك اللقاح. على سبيل المثال، نجد أن البلدان حيث قدرات سلاسل التبريد محدودة تفتقر إلى مرافق التخزين فائقة البرودة اللازمة لبعض لقاحات كوفيد-19. ولم تتمكن أنظمة إعداد التقارير في عدد كبير من البلدان من تزويد صناع القرار ببيانات محدثة ومتعمقة لضبط استراتيجيات التنفيذ استنادا إلى التجارب الناجحة وغير الناجحة.
على الرغم من هذه التحديات، وجدت البلدان الأدنى دخلا سبلا لتلبية احتياجات مجتمعاتها. تضمنت هذه المبادرات التواصل من باب إلى باب لتطعيم كبار السن في المنزل؛ وفرق تطعيم نسائية لتشجيع الاستيعاب من قبل النساء؛ والتنسيق بين المنظمات المهنية والقطاع الخاص للوصول إلى الأشخاص الأكثر عرضة للمرض الشديد بفعل الإصابة بكوفيد-19؛ وفرق التطعيم المتنقلة ــ على متن حافلات أو دراجات نارية أو جِمال أو حمير أو قوارب ــ للوصول إلى المناطق النائية أو تلك التي تعاني من نقص الخدمات؛ ومواقع التطعيم في الأسواق، وعلى طول طرق البدو الرُحّل، وعند نقاط العبور الرئيسية، بما في ذلك محطات الحافلات.
تُـعَـد الصومال مثالا جيدا على كيفية الوصول إلى الناس أينما كانوا. فقد بدأ طرح اللقاح هناك في سياق تحديات متداخلة عديدة: سنوات من انعدام الاستقرار السياسي والصراع؛ والجوع الشديد الناجم عن أسوأ موجة جفاف منذ عقود من الزمن؛ ونزوح عدة مئات من الآلاف من الأشخاص بسبب فيضانات تاريخية. لكن برنامج التطعيم ضد شلل الأطفال في البلاد كان رائدا في استخدام “التخطيط الجزئي” المستنير محليا للعثور على الأشخاص غير المحصنين، وقد ضمنت هذه الاستراتيجيات المصممة خصيصا وصول حملات التطعيم الجماعي التسع ضد فيروس كورونا في الصومال إلى السكان المحرومين من الخدمات، مثل النساء والمجتمعات البدوية. في الفترة من سبتمبر/أيلول إلى أكتوبر/تشرين الأول 2022، على سبيل المثال، وصلت حملة مرحلية قادتها الحكومة الصومالية إلى 3.2 مليون شخص، لتحقق معدل تطعيم سلسلة أولية بنسبة 37%. على ذات القدر من الأهمية كان استثمار الصومال في البنية التحتية لسلاسل التبريد والخدمات اللوجستية لتوصيل اللقاحات، والذي أصبح ممكنا بفضل الدعم المالي من منظمات شريكة.
كما كافحت جزر سليمان، ثالث أكبر أرخبيل في جنوب المحيط الهادئ، لتطعيم السكان في المناطق النائية، خاصة وأن معظم موارد البلاد تتركز في غوادالكانال، أكبر جزر البلاد. استجاب العاملون الصحيون الحكوميون بإنشاء عيادات مؤقتة وغير رسمية في الجزر الخارجية، الأمر الذي جعل من السهل على المجتمعات المعزولة تلقي لقاح كوفيد-19 والخدمات الصحية الإضافية.
من ناحية أخرى، في سيراليون، البلد الذي تغطيه الأراضي العشبية والسافانا والغابات الكثيفة، لا يمكن الوصول إلى عدد كبير من القرى إلا بالدراجة أو سيرا على الأقدام ــ وهي الرحلة التي تصبح أكثر صعوبة أثناء موسم الأمطار. لكن قوة العمل الصحي هناك، بالتعاون مع القائمين على التعبئة المجتمعية، أقامت عيادات تطعيم متنقلة في القرى في المناطق الريفية. علاوة على ذلك، ومن أجل معالجة المخاوف بشأن اللقاح، أخذ القادة المحليون الجرعة ثم روجوا لوضعهم بعد تطعيمهم داخل المجتمع، مما خلق تأثير كرة الثلج.
في مالي، شكل الوصول إلى المعلومات تحديا كبيرا على نحو مماثل، حيث لم يكن كثيرون على علم بتوفر لقاح كوفيد-19 أو مدى فعاليته. ولإشراك المجتمعات المحلية ورفع مستوى الوعي، سافرت شاحنات تحمل فنانين ومؤثرين إلى جانب القائمين على التطعيم عبر الأسواق المزدحمة للإجابة على الأسئلة وتشجيع المارة على الحصول على الجرعة؛ وخلقت الموسيقى الصاخبة والرقص جوا مفعما بالحيوية. وعلى مدار 12 يوما، وصلت القافلة إلى أكثر من 21 ألف شخص وقامت بتطعيم أكثر من 3000 رجل وامرأة ومراهق.
هذه الاستراتيجيات المبتكرة من الممكن أن تخدم كنماذج للمجتمع العالمي. لكنها تسلط الضوء أيضا على أهمية تطوير برامج التحصين المصممة خصيصا، والتي تتطلب بدورها الثقة، والتواصل الواضح، والوصول العادل إلى اللقاحات، واتخاذ القرارات بناء على البيانات، والتعاون بين الحكومات والمنظمات الصحية والمجموعات الشعبية والمتطوعين.
في أعقاب جائحة كوفيد-19، بِـتـنا نعلم أن اللقاحات المعجزة يمكن تطويرها بسرعة وتسليمها إلى مجتمعات يصعب الوصول إليها. المفتاح هو التركيز على الوصول إلى الناس أينما كانوا.
تعمل The-Delivery.org ككبسولة زمنية رقمية طورها التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI)، بالتعاون مع التحالف العالمي للقاحات والتحصين (Gavi)، ومنظمة اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية لضمان تخزين النتائج والقصص الرسمية الخاصة بإطلاق لقاح كوفيد-19 بأمان وسهولة وصول أجيال المستقبل إليها.
* بنيامين شرايبر كبير مدراء لدى مركز استراتيجية الطوارئ الصحية والشراكات التابع لمنظمة اليونيسيف.
*ريتشارد ميهيجو مدير تسليم وتنسيق وتكامل لقاحات كوفيد-19 في تحالف اللقاحات Gavi.
* آن ليندستراند رئيسة البرنامج الأساسي لوحدة التحصين في منظمة الصحة العالمية.
ترجمة: مايسة كامل
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org