آفاق بيئية : نجيب صعب *
رغم الحديث المحموم عن الارتفاع الكبير في أسعار الوقود، فليس ما تشهده الأسواق حالة جديدة كلياً، إذ وصلت أسعار النفط إلى مستويات أعلى في السابق، تبعاً لتطورات سياسية وعسكرية واقتصادية. وإذا قارنا القوة الشرائية لسعر برميل النفط اليوم بما كانت عليه قبل عشرين عاماً، نجد أنها انخفضت. فمسار أسعار الوقود الأحفوري كان في الغالب أبطأ من المسار التصاعدي لمعدلات التضخم. وتبعاً للحق السيادي للدول بالتحكم في مواردها الطبيعية، في نطاق الالتزام بالعقود التجارية والاتفاقات الدولية، لا يحق لأي جهة أن تفرض قيوداً على معدلات الإنتاج والتصدير. نسوق هذا الكلام كمقدمة لمحاولة الإجابة عما إذا كان التفلت الكبير للأسعار يندرج ضمن مصلحة الدول المنتجة للنفط، وما علاقة هذا بالمعايير البيئية والتزامات تخفيض الانبعاثات الكربونية.
قبل أن يفرض منتجو البترول العرب حظراً على التصدير عام 1973، كان سعر البرميل أقل من 3 دولارات، فارتفع خلال سنة إلى نحو 12 دولاراً. هذا التصحيح في الأسعار كان ضرورياً، لأن سعر النفط حتى ذلك الوقت كان منخفضاً جداً مقارنة بالسلع الأساسية الأخرى. منذ ذلك الوقت، بدأ النفط يرتبط أكثر فأكثر بأسعار السوق الواقعية كسلعة يحكمها العرض والطلب وتقديرات المخزون، وذلك مع اكتساب منظمة الدول المنتجة والمصدرة للبترول (أوبك) قدرة أكبر للدفاع عن حقوق أعضائها. وشاعت في تلك الفترة تعليقات خبيثة في بعض الدول الكبرى المستورِدة، قد يكون أكثرها لؤماً ما قاله سياسي أميركي من أن «الله وضع مخزونات النفط في المكان الخطأ». هذا يمثل أقصى درجات العنصرية والاستعلاء، وكأنه ليس للدول النامية الحق في استثمار مواردها بحرية لمصلحة شعوبها والحصول على حقوقها كاملة.
لم يكن تغير المناخ قضية مطروحة بعد. لذا لم يكن الحديث عن الطاقات المتجددة آنذاك في إطار تخفيف الانبعاثات الكربونية، بل جاء في إطار الاستثمار في موارد الشمس والرياح غير المحدودة بدلاً من الاستنزاف السريع للمخزون المحدود وغير المتجدد للبترول. لكن الاهتمام الفعلي بالطاقات المتجددة الخالية من الانبعاثات الكربونية بدأ في منتصف تسعينات القرن الماضي، بعدما أثبتت الدراسات أن النشاطات البشرية هي المسبب الرئيسي لتغير المناخ، خصوصاً الانبعاثات الكربونية من حرق الوقود الأحفوري. ومع كل التزام جديد للقمم المناخية بتخفيض أكبر للانبعاثات، كانت تزداد الجهود وتتضاعف الميزانيات لإدخال الطاقات المتجددة كبدائل نظيفة، إلى جانب اعتماد تدابير الكفاءة وتطوير تكنولوجيات عملية لالتقاط الكربون الناجم عن حرق الوقود الأحفوري، تمهيداً لإعادة استخدامه أو تخزينه بأمان. وفي حين كانت الاستثمارات في الطاقة المتجددة تتراجع في الماضي مع كل موجة انخفاض في أسعار البترول، فقد أثبتت السنوات العشر الأخيرة استمرار التوسع في مشاريع الشمس والرياح على وتيرة مستقرة، حتى خلال التدهور الكبير في أسعار البترول، حين انخفض سعر البرميل إلى ما دون 30 دولاراً لفترات طويلة ما بين 2015 و2020. وقد حاولت دول «أوبك» في السنوات الأخيرة الحفاظ على استقرار الإمدادات وعدالة الأسعار، مع أن بعض الأصوات في الولايات المتحدة عادت مؤخراً إلى اتهامها بممارسات احتكارية.
من الطبيعي أن نكون في خط الدفاع عن حق الدول المنتجة للنفط – من حيث هو حق سيادي لا يقبل الجدل – لتحصيل البدل العادل من بيع مواردها الطبيعية. لكن العالم اليوم يعيش تطورات غير مسبوقة، يتطلب التعامل معها اعتماد مقاربات جديدة. فحين كان سعر برميل النفط نحو 10 دولارات عام 1975، كانت كلفة ألواح شمسية لإنتاج واط واحد من الكهرباء تتجاوز 100 دولار، بينما وصلت اليوم إلى أقل من دولار. أي أنه مع ارتفاع سعر النفط أكثر من عشر مرات، انخفضت كلفة إنشاء محطات الطاقة
الشمسية 100 مرة. ومحطات الشمس والرياح تقدم اليوم أرخص أسعار الكهرباء للمستهلكين في مناطق كثيرة من العالم، بعد الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز. أما التحفظات التي كانت سائدة في الماضي بشأن عدم قدرة الشمس والرياح على تخزين الطاقة، فقد تجاوز التطور التكنولوجي معظمها، عن طريق بطاريات عالية الكفاءة وبتطوير أساليب فعالة ورخيصة لإنتاج الهيدروجين كناقل ومخزن مأمون للطاقة، يعتمد حصراً على المياه والكهرباء المتجددة خلال فترات الذروة.
مع أن الحقائق الأساسية لم تتبدل، فالمضاعفات الاقتصادية والجيوسياسية لجائحة «كورونا» واجتياح «أوكرانيا» فرضت وتيرة جديدة، عززها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، بالتوازي مع هبوط اقتصادي عالمي ومعدلات تضخم غير مسبوقة. فالنقص في إمدادات الغاز الروسية والتهديد بالحظر أو المقاطعة يدفعان إلى البحث سريعاً عن حلول بديلة، في طليعتها إعادة الاعتبار إلى الفحم الحجري والطاقة النووية، مما يتعارض بالتأكيد مع الالتزامات المناخية لتخفيف الانبعاثات، في المدى القريب على الأقل. لكن هذا ترافق مع تسريع كبير في برامج الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة في المدى المتوسط، وهذا قد يعرض التحول السلس إلى مطبات غير محسوبة. ولعل الخطة التي أعلنتها دول الاتحاد الأوروبي أخيراً لتخفيف الاعتماد على إمدادات الغاز والنفط من روسيا أبرز مِثال على هذا. فإلى جانب بناء شبكات أنابيب جديدة ومحطات لمعالجة الغاز المسيل لاستيراد الوقود الأحفوري البديل من مناطق أخرى، تضمنت الخطة أهدافاً جديدة لتحسين الكفاءة وتسريع التحول إلى الطاقات المتجددة بوتيرة لم يتصورها أحد من قبل. ومن هذه تخفيض استهلاك أوروبا من الطاقة عامة بنسبة 13 في المائة ورفع حصة الطاقة المتجددة إلى 45 في المائة بحلول سنة 2030، وصولاً إلى الاعتماد الكامل عليها بحلول سنة 2045.
من مصلحة المنتجين والمستهلكين معاً استقرار الإمدادات والحفاظ على مستويات معتدلة لأسعار النفط والغاز. فعدم تلبية الطلب يدفع بالدول المستورِدة إلى استخدام بدائل ملوثة وخطيرة في المدى القريب، واستعجال الاستغناء عن الوقود الأحفوري بالتحول سريعاً إلى الطاقات المتجددة في المدى المتوسط. وفي حين تنطوي الحالة الأولى على ضرر كبير بالبيئة، تؤدي الحالة الثانية إلى تحول مفاجئ وغير منظم عن المصادر التقليدية، يعيق تفعيل البدائل ويضر بالمنتجين والمستهلكين على السواء.
تستطيع الدول العربية المنتجة للنفط والغاز الحفاظ على مركزها القيادي في أسواق الطاقة وحماية مصالحها على المدى الطويل، بالعمل قدر المستطاع على سد حاجات الأسواق، مع ضمان استقرار الإمدادات واعتدال الأسعار. فهذا يعزز موقعها كلاعب أساسي، ويمدد فترة الاستفادة الكاملة من دخل النفط والغاز، في انتظار تطوير تكنولوجيات فعالة واقتصادية لالتقاط الكربون وإعادة استخدامه أو احتجازه بأمان.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة
والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»