تواصل تدهور الوضع البيئي العربي بفعل فشل السياسات
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في التعامل مع قطاع البيئة
آفاق بيئية – المنامة ( البحرين) : من محمد التفراوتي
أعلن المنتدى العربي للبيئة والتنمية في مؤتمره السنوي في المنامة، عن تقرير معنون بـ”البيئة العربية: تحديات المستقبل”، وقدم محررا التقرير الدكتور مصطفى كمال طلبه ونجيب صعب، بمشاركة 16 خبيراً تعاونوا في اعداده، عرضاً لأهم نتائجه.
وللمرة الأولى يتم إعداد تقرير شامل ومستقل حول البيئة العربية من قبل خبراء مستقلين من أنحاء المنطقة العربية، ويوضع قيد النقاش العام حيث مكن من الاطلاع الشامل على المشهد البيئي في العالم العربي، مبرزا التحديات البيئية، والأنماط الاجتماعية والسياسية والديموغرافية، والتقدم في التعاون الاقليمي وتحت الاقليمي، وبعض التوصيات للعمل في المستقبل.
ونبه التقرير من خلال بسط مختلف فصوله الى الوضعية الحرجة التي تواجه البيئة العربية.
وشدد الى ضرورة الانكباب بصفة عاجلة على أربع اكراهات رئيسية تتضح جليا في ندرة المياه العذبة، والتصحر، وتلوث البيئة البحرية والهواء، منبهاً إلى أن هذه المشاكل ستتعاظم بسبب انعكاسات تغيّر المناخ.
وافاد التقرير أن بعض أجزاء المنطقة العربية شهدت نمواً لم يسبق له مثيل، ما جلب الازدهار الاقتصادي والاجتماعي الى ملايين العرب خلال العقود الأخيرة، خاصة نتيجة لارتفاع الدخل من النفط. لكن التقرير يتساءل: “هل تترتب على هذه التنمية الاقتصادية كلفة في مجالات أخرى؟ هل يمكن أن تستمر أنماط التنمية التي يشهدها عدد من البلدان العربية، مع الحفاظ على سبل العيش وجودة الحياة للأجيال المقبلة؟” ويجيب: “نشكّ في ذلك”.
إن تغير المناخ، وارتفاع معدلات النمو السكاني، فضلاً عن النمو الاقتصادي والحضري السريعين في بعض البلدان، كلها عوامل تُضاعف تعرّض المنطقة للتحديات البيئية وتقيد قدرتها على إدارتها.
ويتم استخدام الموارد الطبيعية بطريقة غير مستدامة، مما يقوض التنمية الاقتصادية وجهود تخفيف حدة الفقر. ويقدّر أن معدل الكلفة السنوية للتدهور البيئي في الدول العربية تصل إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الاجمالي.
ويخلص التقرير إلى أن حكومات المنطقة فشلت في مواجهة هذه التكاليف البيئية المتصاعدة بسياسات واضحة وفعالة.
والأموال التي تخصصها الموازنات للأغراض البيئية لا تقارب الواحد في المئة من الناتج الاجمالي المحلي في أي من بلدان المنطقة. يضاف الى ذلك أن المؤسسات البيئية القائمة لم تُمنح أي دعم حقيقي أو مهمات تشريعية قوية، مما يحدّ من قدرتها على أن تكون فعالة.
ويتضح من التقرير أنه يجب التسليم عاجلاً بأن القضايا البيئية تستحق أولوية سياسية واقتصادية، بالتساوي مع القضايا الماكروـ اقتصادية الرئيسية الأخرى. ويمكن تحقيق هذا من خلال مقاربة ذات شقين: أولاً، استحداث تشريع شامل ومتكامل وواضح وفعال. وثانياً، منح المؤسسات البيئية الموارد والصلاحيات السياسية لتحقيق التقدم الضروري.
كما يؤكد التقرير على ضرورة دعم جهود البحث العلمي والتطوير. وعلى القطاع الخاص أن يتخذ مزيداً من المبادرات لدمج الاعتبارات البيئية في عمليات التخطيط، منتقلاً من حصر المسألة في المساعدات الخيرية، الى مفهوم المسؤولية الاجتماعية والادراك الحسي للمسؤولية البيئية.
ولن يجدي أي من هذه نفعاً من دون دعم الجماهير العربية، الذي لا يمكن تحقيقه في غياب جهد حقيقي من جانب وسائل الاعلام والمجتمع المدني، خصوصاً المنظمات غير الحكومية، لرفع الوعي البيئي.
المياه والتصحر والزراعة
يحذر التقرير من أن المنطقة العربية تواجه موقفاً حرجاً في موضوع المياه. فباستثناء مصر والسودان والعراق ولبنان وسورية، يتوقع أن تعاني جميع البلدان العربية ضغطاً حاداً على المياه بحلول سنة 2025. ومن المحتمل أن يؤدي الاحترار العالمي المتوقع وما يستتبعه من تغير مناخي الى زيادة الضغط على الامدادات المائية المتضائلة أصلاً. واذ ينبّه إلى أن كفاءة استخدام المياه لا تتجاوز 50 في المئة، يدعو إلى سياسات وبرامج تؤدي إلى وضع حد للهدر، في الزراعة والصناعة والاستعمالات المنزلية، كما يشدد على ضرورة تكريس مزيد من الموارد لتطوير تكنولوجيات تحلية المياه المالحة المحلية.
ويدعو التقرير إلى تأمين ما يكفي من المياه العذبة لانتاج الغذاء والاستعمالات البشرية والانتاجية، محذراً من التوسع الكبير في انشاء ملاعب الغولف، التي سيتضاعف عددها خلال السنوات القليلة المقبلة، لتصل إلى 40 في دول الخليج. ويشير إلى أن كل ملعب غولف عشبي في هذه الدول الجافة يحتاج إلى 1,3 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، أي ما يكفي لسد حاجة 15 ألف شخص.
يبيّن التقرير أن التصحر يمثل التهديد الأكثر الحاحاً للأراضي المنتجة في المنطقة العربية برمّتها، وينبّه إلى أن هذه القضية لا تحظى بالاهتمام الكافي. ويشير إلى أن المبيدات والأسمدة تُستعمل على نطاق واسع في المنطقة العربية، ويُساء استعمالها في كثير من الحالات، إذ ان بعض الدول العربية تستعمل أعلى كميات الأسمدة لكل هكتار في العالم. ويثير الاستعمال المكثف للمبيدات والأسمدة مخاوف حول سلامة الغذاء كقضية صحية عمومية. وما هو مفقود في معظم البلدان العربية فرض أنظمة وضوابط على بيع المبيدات وتداولها واستعمالها.
تغير المناخ
ويؤكد التقرير أنه بالرغم من أن المنطقة العربية لا تساهم بأكثر من 5 في المئة من انبعاثات الغازات المؤدية الى تغير المناخ العالمي، فإن تأثيراته على المنطقة ستكون قاسية جداً. فارتفاع مستوى البحر نتيجةَ ارتفاع درجات الحرارة يُحتَمل أن يتسبب بخسارة أجزاء جوهرية من الأراضي الزراعية في المنطقة العربية. فان ارتفاع مستوى البحر متراً واحداً فقط يحتمل أن يتسبب بخسارة 12 الى 15 في المئة من الأراضي الزراعية في منطقة دلتا النيل، ويمكن ان يخفض مساحة الأراضي في قطر بنسبة 2.6 في المئة.
كما أن ارتفاع درجات الحرارة سوف يزيد موجات الجفاف وتأثيرها في المنطقة، مما يهدد الموارد المائية والأراضي المنتجة. ويبيّن التقرير أن تكرار موجات الجفاف ازداد فعلاً في الجزائر والمغرب وتونس وسورية، وكانت موجات الجفاف التي حدثت أخيراً في الأردن وسورية أسوأ ما تم تسجيله منذ عقود.
نوعية الهواء
يشير التقرير إلى استمرار تدهور نوعية الهواء في المدن العربية بشكل مطرد. والمشاكل الصحية التي تعزى الى تلوث الهواء الناتج من قطاع النقل وحده تكلف البلدان العربية أكثر من خمسة بلايين دولار سنوياً.
وقد ارتفعت انبعاثات أكاسيد الكربون للفرد الواحد بشكل مطرد في معظم بلدان المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة. وهي تصل في بعض البلدان الخليجية إلى عشرة أضعاف المعدل العالمي. وقد سجلت نتائج المراقبة في مصر ولبنان وسورية مستويات تلوث بلغت أحياناً بين ستة وثمانية أضعاف المعدلات المقبولة.
ويوصي التقرير بإلغاء أشكال دعم المحروقات التي تشجع على التبذير، وتحسين الكفاءة الحرارية من خلال التطور التكنولوجي، واستخدام موارد الطاقة المائية إلى أقصى الحدود، واستعمال مصادر الطاقة المتجددة، خصوصاً الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، على نطاق واسع، واستخدام أنواع الوقود الأقل تلويثاً، مثل الغاز الطبيعي. كما يدعو إلى تخطيط المدن بما يخفف الاختناقات المرورية، إلى جانب تشجيع النقل العام والانتاج الأنظف في الصناعة.
البيئة البحرية والساحلية
البلدان العربية التي تمتد من المحيط الأطلسي الى المحيط الهندي، وتشمل البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج، لها خط ساحلي يزيد طوله على 30,000 كيلومتر، منها 18,000 كيلومتر مناطق آهلة بالسكان. والبيئة البحرية والساحلية في المنطقة العربية يهددها التلوث والافراط في صيد السمك وخسارة التنوع البيولوجي وتغير المناخ ومشاكل أخرى. والى جانب التلوث النفطي من الناقلات، يعتبر التقرير أن السياحة غير المنضبطة والتنمية الحضرية المكثفة هما المساهمان الرئيسيان في تدهور البيئتين الساحلية والبحرية في المنطقة.
إدارة النفايات
يبين التقرير أن العالم العربي ينتج نحو 300,000 طن من النفايات الصلبة كل يوم، ينتهي معظمها، من دون معالجة، في مكبات عشوائية. ويعالج أقل من 20 في المئة حسب الأصول أو يتم التخلص منه في المطامر، فيما يعاد تدوير ما لا يزيد على 5 في المئة.
وإنتاج الفرد الواحد من النفايات الصلبة البلدية في بعض البلدان العربية، هو أكثر من 1.5 كيلوغرام في اليوم، مما يجعله من أعلى المستويات في العالم. لكن التقرير يشير إلى بعض المبادرات الواعدة التي يجري اتخاذها في مجال ادارة النفايات، مثل المبادرات التشريعية في مجلس التعاون الخليجي ومصر، فضلاً عن استثمارات في مرافق تستطيع فرز النفايات الخطرة والتعامل معها، وازدياد استثمار القطاع الخاص في صناعات إعادة التدوير، خصوصاً في السعودية والامارات.
البحث العلمي والتربية والتشريع
وتبعا للتقرير، فالأبحاث العلمية البيئية الفعالة عامل أساسي في مكافحة التدهور البيئي. لكن معدل الانفاق على الأبحاث العلمية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الاجمالي منخفض الى أبعد الحدود في المنطقة العربية، بما يساوي 0.2 في المئة، مقارنة مع المعدل العالمي الذي يبلغ 1.4 في المئة، ويصل في اليابان الى 4 في المئة. والمعدل في العالم العربي هو المعدل الاقليمي الأدنى في العالم بأسره.
ويوصي التقرير بأن يتم استحداث قواعد معلومات علمية إقليمية وتقويتها.
ترتبط التربية البيئية ارتباطاً وثيقاً بموضوع البحث العلمي البيئي على جميع المستويات. وقد تم اتخاذ عدد من المبادرات بهذا الخصوص في العالم العربي. ورصد التقرير 40 مركزاً بحثياً للدراسات البيئية، و27 برنامجاً جامعياً و24 برنامجاً للدراسات العليا حول البيئة.
ومع ذلك، فإن هذه البرامج ما زالت في مرحلتها الأولى، وكثير من فروع المعرفة لا وجود لها، مثل التشريع والادارة البيئيين، فضلاً عن دمج البيئة في خطط وبرامج ومشاريع التنمية.
وفي مجال الاعلام البيئي، رصد التقرير نحو مئة نشرة دورية تحمل أسماء لها علاقة بالبيئة. لكن موضوع البيئة نادراً ما حَظيّ بمعالجة في العمق.
ويبين التقرير أن هناك ضعفاً شاملاً في التشريع البيئي في المنطقة العربية. فالمقاييس البيئية التي نصت عليها القوانين العربية ذات العلاقة، غالباً ما صيغت بما ينسجم مع مقاييس تطبق في البلدان المصنَّعة المتقدمة.
هذه المسألة تجعل من الصعب، من منظور اقتصادي، التقيد بهذه المقاييس أو وضعها قيد التطبيق العملي. أما في ما يتعلق بالمعاهدات الدولية، ففي 49 في المئة من الحالات، لم تنضم البلدان العربية اليها إلا بعد سريان مفعولها.
وهذا قد يعزى الى انعدام انخراط البلدان العربية في الصياغة الأولية لهذه المعاهدات وبطء عمليات تصديقها في البلدان المعنية.
ويدعو التقرير إلى تعديل النظام الحالي للحسابات الوطنية بحيث ينعكس استنزاف وتدهور الموارد البيئية الوطنية كنفقات بدلاً من دخل. كما يؤكد على ضرورة تخصيص جزء كبير من الموازنة لتقوية قدرات السلطات البيئية، وتقليل اعتماد تمويل مشاريع حماية البيئة على المصادر الخارجية، إذ إن تدفق المعونات يعتمد على الظروف الجيوـ سياسية.
وفي عرضه لتأثير الحروب والنزاعات على البيئة، يقترح التقرير إنشاء صندوق عربي لمساعدة البلدان في التعامل مع أسباب النزاع ذات الجذور البيئية، وأيضاً لمعالجة التأثيرات البيئية الأكثر الحاحاً للحرب.
كذلك يوصي بمزيد من التعاون الاقليمي والدولي من أجل توفير القدرة على الانذار المبكر وتقييم الروابط بين النزاع والبيئة، خصوصاً في المجالات التي لم تلق اهتماماً كافياً مثل تأثير الرؤوس الحربية المصنوعة من اليورانيوم المستنفد والألغام.
وفي ملاحظة ختامية، جاء في التقرير: “الوضع ليس قاتماً كلياً. فغالبية البلدان العربية لديها حالياً إما وزارة بيئة أو هيئة بيئة حكومية أو الاثنتان معاً.
والمجتمع المدني والقطاع الخاص ينخرطان أكثر في الأمور البيئية، لكن بمستويات مختلفة من الفعالية. وقد بدأت بعض الجهات الحكومية المسؤولة عن البيئة بوضع خطط استراتيجية للادارة البيئة.
إن مصير المنطقة العربية مرتبط على نحو لا مناص منه بحالة بيئتها، التي تفرض على الدول العربية العمل معاً لمواجهة التحديات المشتركة، وللتعاون كجبهة واحدة في المبادرات البيئية العالمية. لقد تم تحقيق الكثير في المنطقة العربية في ما يتعلق بالوعي والمبادرات البيئية، لكن الأكثر ما زال مطلوباً”.