آفاق بيئية: محمد التفراوتي
أسدل الستار على الملتقى العربي الأول للباحثات الذي انعقد تحت شعار “باحثات عربيات نحو المستقبل: تجارب ملهمة ورؤى ثاقبة”، بتنظيم مشترك بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بسلطنة عمان وجامعة البريمي، وبمشاركة واسعة لقيادات أكاديمية وباحثات من مختلف الأقطار العربية. وقد شكل هذا الحدث العلمي منصة بارزة لتبادل الخبرات واستعراض تجارب نسائية رائدة في مجالات البحث العلمي والابتكار.
في الجلسة الافتتاحية، أكدت وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار رحمة بنت إبراهيم المحروقية في كلمتها أهمية انعقاد هذا الملتقى في سلطنة عمان، معتبرة أن دعم الباحثات العربيات يمثل استثمارا نوعيا في مستقبل التنمية المستدامة، ومشددة على أن الحضور المتزايد للمرأة العمانية والعربية في البحث العلمي أثبت قدرته على إحداث تأثير ملموس في القضايا الوطنية والإنسانية. كما اعتبرت الوزيرة أن هذا اللقاء العلمي يكرس رؤية عربية مشتركة لتعزيز التعاون بين الباحثات، ويدعم بناء فضاءات جديدة للابتكار والإنتاج المعرفي.
أما كلمة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، فقد ألقاها الأستاذ الدكتور محمد سند ابودرويش الذي أبرز فيها أن هذا الملتقى يجسد استجابة حقيقية لتوصيات المنتدى العربي للبحث العلمي والتنمية المستدامة، مشيدا بالتجربة العمانية في بناء بيئة علمية متقدمة، وداعيا إلى تعزيز حضور الباحثات في صياغة السياسات العلمية الوطنية وفي قيادة التحول المعرفي داخل المنطقة العربية.
وفي سياق الجلسات العلمية، برزت مداخلة الدكتورة وداد عبد المحسن كأحد أبرز العروض التي شدت انتباه الحضور، حيث تناولت موضوع المسؤولية الاجتماعية للجامعات باعتباره محورا مركزيا في تحديث أدوار التعليم العالي. وأوضحت الدكتورة وداد في عرضها أن فهم هذا المفهوم يستوجب العودة إلى جذوره الأولى ضمن أدبيات المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات التي بدأت مع أعمال الاقتصادي “هوارد بوين” في خمسينيات القرن الماضي، قبل أن تتطور لتصبح إطارا عالميا موجها من خلال معيار ISO 26000 الذي رسخ مبادئ الشفافية والمساءلة واحترام القانون وحقوق الإنسان والسلوك الأخلاقي.
وانطلقت المحاضرة لتبين التحول الذي شهدته الجامعات حين تبنت هذه المبادئ ووسعت مفهوم المسؤولية الاجتماعية ليصبح جزء من استراتيجياتها الأكاديمية والبحثية، مؤكدة أن الجامعات لم تعد مجرد مؤسسات للمعرفة، بل باتت فاعلا اجتماعيا يسهم في تحقيق التنمية المستدامة وترسيخ قيم الإنصاف والاندماج. وقد توقفت المتدخلة عند التجارب الدولية في هذا المجال، خاصة التجربة الفرنسية التي أرست ميثاقا وطنيا للجامعات يجمع بين التنمية المستدامة والمسؤولية المجتمعية، وكذلك تجربة “UI GreenMetric” التي تقيس أداء الجامعات في مجالات الطاقة والمياه وإدارة النفايات والنقل المستدام والبحث العلمي، معتبرة أن الانتقال إلى نموذج “الجامعة الخضراء” يمثل اليوم أحد المسارات الواعدة في العالم العربي.
وبالتوازي مع هذه المداخلة، شهد الملتقى مناقشات معمقة حول قضايا الذكاء الاصطناعي والابتكار، حيث جرى تبادل وجهات النظر بشأن مستقبل التقنيات الرقمية في العالم العربي ودور النساء الباحثات في تطويرها. كما تطرقت المشاركات إلى مسارات الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة من خلال تجارب علمية عربية تؤكد الحضور القوي للمرأة في قيادة التحول البيئي والمجتمعي. وشكلت موضوعات الصحة النفسية والرعاية الاجتماعية محورا أساسيا في إحدى الجلسات، حيث أبرزت الباحثات جهودهن في تحسين جودة الحياة واستعراض ابتكارات صحية تتعلق بالوقاية والسلوك الدوائي والبيئة الإشعاعية.
واختتم الملتقى أعماله بتأكيد المشاركات على ضرورة خلق فضاءات عربية جديدة لتبادل الخبرات وبناء تعاون بحثي نسائي مستدام، من خلال الدعوة إلى تأسيس منصات رقمية وشبكات متخصصة للباحثات، وتعزيز الشراكات بين الجامعات، وتطوير برامج التدريب والحاضنات البحثية، إلى جانب مواصلة عقد الملتقى سنويا ليشكل تقليدا بحثيا.عربيا راسخا يبرز مكانة المرأة الباحثة ودورها في صياغة مستقبل عربي أكثر ابتكارا واستدامة.
وقد ترك هذا الملتقى بصمة واضحة من خلال غنى نقاشاته وجدية أوراقه العلمية، بينما شكلت مداخلة الدكتورة وداد عبد المحسن إحدى اللحظات البارزة التي جسدت التقاء البحث العلمي بالمسؤولية المجتمعية في أرقى صورها.
