البحر المتوسط، مرآة لكوكب يختنق: سرد لأزمة بين العلم واتخاذ القرار

محمد التفراوتي2 ديسمبر 2025آخر تحديث :
البحر المتوسط، مرآة لكوكب يختنق: سرد لأزمة بين العلم واتخاذ القرار

آفاق بيئية: محمد التفراوتي

يعد البحر المتوسط حوضا مائيا ضيقا، تحيط به بثلاث قارات، لكنه يشكل في الوقت نفسه مرآة مكبرة لاختلالات كوكب الأرض بأكمله.

تحول إلى نموذج مكثف للأزمات البيئية العالمية. فبين تغير المناخ، واستنزاف الموارد السمكية، وتدهور الموائل البحرية، وارتفاع الملوحة والحرارة، وتزايد الأنواع الغازية، يعيش المتوسط اليوم أعمق مرحلة من الضغط البيولوجي في تاريخه الحديث.

 وبفضل مساحته المحدودة نسبيا، وانغلاقه الجغرافي و كثافة الساكنة على سواحله، إضافة إلى تراكم الأنشطة البشرية، صار هذا البحر حالة دراسة فريدة لفهم الاتجاه الذي يسلكه العالم. كل تفصيل في هذا البحر يروي قصة أوسع. قصة مناخ يخرج عن السيطرة، وتدهور بيئي يتسارع، وموارد تتناقص، وقرارات تتأخر رغم وفرة المعرفة العلمية.

وإذا كان العالم كله يقرع ناقوس الخطر بشأن مستقبل المحيطات، فإن الوضع المتوسطي يبدو أكثر إلحاحا، بفعل هشاشة النظام البيئي، وضيق المساحة، وكثافة الاستغلال عبر قرون.

على مدى عقود، تتابع الهيئات العلمية المتخصصة تطور البيئة البحرية لهذا الحوض الذي كان يوصف يوما بأنه مفترق طرق للحضارات، فأصبح اليوم مفترق طرق للأزمات.

وتشير أحدث التقييمات، التي بلغت مستوى غير مسبوق من الدقة، إلى أن البحر المتوسط يمر بمرحلة انتقالية حادة، تتسم بتغيرات سريعة في هيكله البيولوجي وموارده الأساسية. و مع الارتفاع المستمر في درجات حرارة المياه، تضيق نطاقات عيش العديد من الأنواع بينما تغزو أنظمة غريبة بيئته، مما يعطل توازنه الإيكولوجي بعمق.

ومع ذلك، فإن ما تنتجه المختبرات ومؤسسات البحث نادرا ما يتحول إلى قرارات. فما تزال الفجوة واسعة بين المعرفة العلمية ومراكز القرار السياسي، و يعمق هذا الانقسام الرأسي هشاشة وضع البحر المتوسط ويضخم أزماته. يتقدم العلم، لكن الالتزام السياسي يظل هشا. و تتراكم التقارير، لكن السياسات تتأخر. والمفارقة صارخة. فالبحر الذي يعد من أكثر بحار العالم دراسة، يظل في الوقت نفسه من أكثرها تعرضا لضغوط كان يمكن تفاديها لو أن الإرادة السياسية سارت بوتيرة إنذارات العلم.

في قلب هذه الصورة المعقدة، يشكل عمل اللجان العلمية حجر الزاوية في تقييم حالة الأرصدة السمكية ومراقبة تحولات البيئة البحرية. فقد طورت هذه اللجان في السنوات الأخيرة أدوات متقدمة تعتمد على قواعد بيانات ضخمة، ومعالجات إحصائية دقيقة، وأنظمة مراقبة حديثة، مما جعل تقاريرها مرجعا لا غنى عنه لفهم الحالة البيولوجية للبحر المتوسط.

و تكشف أحدث التحليلات وضعا بيولوجيا مقلقا للأرصدة السمكية، على الرغم ظهور من بعض علامات التحسن المحدودة. إذ شملت التقييمات الحديثة أكثر من أربعة وتسعين رصيدا سمكيا، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المنطقة. ومع ذلك، لا يزال نصف هذه الأرصدة يستغل فوق قدرته، خصوصا الأنواع القاعية، التي يجعلها نموها البطيء ودورة حياتها الطويلة شديدة القابلية للانهيار. أما الأنواع السطحية الصغيرة، ك”الأنشوبة”  (Anchoa) أو السردين، فتظهر أوضاعا متفاوتة بين الأحواض الفرعية. إذ تعرف بعض المناطق تشهد تحسنا ملحوضا بينما يشهد غيرها تراجعا لافتا.

وتجسد هذه الصورة المركبة طبيعة البحر المتوسط ذاته، حيث تتفاعل العوامل البيئية مع الضغوط البشرية لتشكل مشهدا بالغ التعقيد. فاحترار المياه يعيد تنظيم السلاسل الغذائية ويغير سلوك الأنواع وإيقاعاتها التناسلية، فيما يواصل الصيد المكثف استنزاف الأرصدة السمكية غير القادرة على تحمل هذا الضغط المتزايد. وفي الوقت ذاته، يهدد توسع الأنشطة الساحلية والبحرية مواطن شديدة الحساسية مثل المروج البحرية والشعاب المرجانية العميقة. ومع تعاظم التحولات المناخية العالمية، يبدو البحر المتوسط غارقا في تحد متعدد الأبعاد لا يمكن مواجهته إلا برؤية إقليمية مشتركة تتقاطع فيها المعرفة العلمية مع السياسات البيئية الفاعلة.

تشكل البيانات في هذا السياق العمود الفقري للجهد العلمي. فقد تلقت اللجان، خلال العام الماضي،  أكثر من مائة وثمانية وثلاثين (138) تقريرا وطنيا، وهو ما أتاح تحديث قواعد البيانات وإنتاج تقييمات أكثر شمولا. ومع ذلك، ما تزال بعض التغراث قائمة. إذ تعاني بعض البلدان  من محدودية قدرات المراقبة، مما يؤثر على دقة النماذج العلمية ومتانة التوصيات الموجهة إلى صانعي القرار.

ورغم هذا التفاوت، بدأت التحسينات الرقمية في أنظمة المتابعة تؤتي ثمارها. فقد جرى اعتماد منصات موحدة لإدارة البيانات، كما ساهمت أدوات التتبع الإلكترونية في تحسين جودة المعلومات و تسريع تحليلها. وقد مكن هذا التطور من تشكيل صورة أدق لحالة الأرصدة السمكية، وإن ظل تنفيذ هذه التقنيات متفاوتا. بين البلدان على المستوى الوطني

لكن الشرخ الحقيقي ليس علميا ولا تقنيا. إنه شرخ في اتخاذ القرار. فما تزال التحديات السياسية والاقتصادية تقف حاجزا أمام اعتماد خطط فعالة لإدارة المصايد. إذ تتضمن قرارات مثل تخفيض جهد الصيد أو إطالة فترات الراحة البيولوجية كلفة اجتماعية مباشرة، خصوصا بالنسبة للمجتمعات الساحلية التي تعتمد على الصيد كمورد رئيسي. وتزيد الفوارق الواسعة بين القدرات الوطنية من تعقيد التنسيق الإقليمي، ما يجعل تطبيق رؤية مشتركة رهينا بدعم مالي وتقني مستمر.

و تظهر التجارب الدولية أن تأجيل القرارات غالبا ما يكون أكثر كلفة من اتخاذها في وقتها. فالنظم الإيكولوجية، حين تنهار، تحتاج عقودا لتستعيد عافيتها، إن استطاعت ذلك أصلا. و بحكم طبيعة البحر المتوسط شبه المغلقة، يصبح أكثر هشاشة تجاه أي تأخير إضافي.  ومن هنا تبرز ضرورة تبني مقاربة شاملة تجمع بين حماية الأنظمة الموضعية الحساسة، والتقييم المنتظم للآثار المناخية، وتوسيع نماذج تقييم استراتيجيات الإدارة التي تسمح بمحاكاة سيناريوهات متعددة قبل اتخاد قرارات حاسمة.

وفي هذا الإطار، يتواصل العمل لتطوير شبكة من الخبراء المتخصصين في تقييم الآثار المناخية على المصايد، بما يعكس إدراكا متزايدا بأن المستقبل لن يكون امتدادا بسيطا للماضي، وأن أساليب الإدارة التقليدية لم تعد كافية. وبالتوازي، يتعزز إشراك الصيادين في جمع البيانات والمراقبة الميدانية، في محاولة لدمج المعرفة المحلية بالمعرفة العلمية، وهو نهج أثبت نجاعته في العديد من المناطق عبر العالم.

و رغم هذه المبادرات الواعدة، يبقى سؤال قائما. كيف ننتقل من المعرفة إلى القرار؟ كيف تتحول التوصيات العلمية إلى إجراءات ملموسة؟ تكمن الإجابة في تعزيز الشفافية، وتطوير القدرات الوطنية، وابتكار آليات تمويل مستدامة تساعد البلدان على تنفيذ الإدارة الرشيدة للمصايد. فالعلم يرسم الطريق، لكن الإرادة السياسية وحدها  قادرة  على تحويله هي إلى واقع ملموس.

في هذا السياق أجرينا الحوار التالي مع الدكتور  محمد ملولي الإدريسي،رئيس اللجنة العلمية للجنة العامة لمصايد البحر المتوسط (GFCM/FAO) و الذي يقدم قراءة علمية معمقة لأحدث التقييمات، موضحا ما تكشفه الأرقام وما يزال إنجازه لضمان مستقبل الأرصدة السمكية.

يسلط هذا الحوار الضوء على حقيقة واضحة لكنها حاسمة: البحر المتوسط يقف اليوم عند نقطة تحول. فبين نظام إيكولوجي منهك ومعرفة علمية تتزايد صرامتها ودقتها، لم يعد السؤال: ماذا نعرف؟ بل أصبح: ماذا نفعل بما نعرفه؟ وإلى أي حد تستطيع الدول تحويل المعرفة إلى إرادة، ثم تحويل الإرادة إلى فعل مستدام يضمن ألا يفقد هذا البحر ما تبقى من توازنه البيولوجي.

من العلم إلى القرار..صوت الخبرة في مواجهة التحديات

حوار مع الدكتور محمد إدريسي الملوي، رئيس اللجنة العلمية لـلهيئة العامة لمصايد الأسماك في البحر المتوسط (GFCM/FAO): حاوره محمد التفراوتي

سؤال 1. يبين التقرير العلمي السنوي تحقيق تقدم مهم في تقييم المخزونات. كيف يمكن تفسير ذلك؟

د. ملولي: لقد وصلنا بالفعل إلى مستوى غير مسبوق: تقييم 94 مخزونا، وهو ما يشكل منعطفا رئيسيا. لقد انتقلنا من  78 في المائة من المخزونات التي كانت في حالة استغلال مفرط سنة 2013 إلى 52 في المائة في سنة 2023. هذا تقدم استثنائي يعكس إرادة بلدان البحر المتوسط في تصحيح الوضع، عبر تنفيذ عدة خطط وتدابير للتنظيم والإدارة. غير أن هذا التطور الإيجابي لا يجب أن يخفي حقيقة أن أكثر من نصف المخزونات في المتوسط ما تزال هشة أو في حالة استغلال مفرط. التحسن ملموس، لكنه لا يزال غير كاف لتحقيق استغلال مستدام بالكامل.

سؤال 2. لا تزال الأسماك القاعية في صميم القلق. لماذا؟

د. ملولي: لأنها أنواع تعيش قرب القاع، وتتميز بدورة حياة طويلة وقدرة بطيئة على تجديد الكتلة الحيوية. ويعد وضع “الميرلو الأوروبي” (Merluccius merluccius) نموذجا واضحا: فرغم الجهود الكبيرة المبذولة، ما تزال ضغوط الصيد فوق الحدود الآمنة بيولوجيا.

سؤال 3. ماذا عن الأسماك السطحية مثل “الأنشوبة” والسردين؟

د. ملولي: “الأنشوبة” تظهر مؤشرات إيجابية، خصوصا في شرق المتوسط. لكن السردين يبقى مقلقا، خاصة في الأدرياتيك، حيث تشير المؤشرات البيولوجية إلى أنه يقترب من الانهيار.

سؤال 4. توصف البيانات بأنها “العمود الفقري” للإدارة. أين وصلنا فعليا؟

د. ملولي: تلقينا هذا العام 138 تقريرا وطنيا، واعتمدنا لوحات متابعة لتقييم جودة البيانات. عدة دول تتقدم في مسار الرقمنة من خلال برامج مثل تطبيق ” Calipseo “.

(هو تطبيق ويب مفتوح المصدر لأنظمة معلومات مصايد الأسماك الوطنية لإدارة البيانات الإدارية وجمع بيانات مصايد الأسماك وتخزينها.)

  لكن الفوارق ما تزال قائمة: فلا قرارات دقيقة يمكن اتخاذها دون بيانات موثوقة.

سؤال 5. تظهر خطط الإدارة نتائج متفاوتة. ما أبرز التحديات؟

د. ملولي: بعض الخطط تعمل جيدا، خصوصا في وسط المتوسط. لكن أحد أكبر التحديات يبقى غياب مؤشرات اجتماعية، اقتصادية قوية. فلا يمكن أن تقوم الإدارة المستدامة على الأسس البيولوجية فقط، بل يجب أن تراعي واقع المجتمعات الساحلية أيضا.

سؤال 6. فيما يتعلق بالمناطق البحرية الهشة (VMEs)، ما توصياتكم؟

د. ملولي: التقدم مشجع لكنه غير كاف، خاصة في الجنوب والشرق حيث ما نزال نفتقر إلى البيانات. وقد أوصينا بتمديد حظر الصيد إلى ما يتجاوز عمق 800 متر، وهي خطوة تعزز الحماية دون تأثير اقتصادي كبير.

سؤال 7. ما وضع الأنواع الخاصة مثل المرجان الأحمر أو “الكوريفين”  (Coryphène)؟

د. ملولي: المرجان الأحمر يحتاج إلى منهجية خاصة يجري تطويرها بالفعل. وقد أطلقنا برنامجا بحثيا مخصصا لهذه الأنواع شديدة الحساسية والمهمة جدا للنظام البيئي في المتوسط. أما “الكوريفين”(Coryphène)، فقد أنهينا التقييم القياسي له، ونعمل الآن على توحيد إدارة الأساطيل التي تستخدم أجهزة التجميع (DCP/FADs).

سؤال 8. كيف يمكن وصف وضع المخزونات حسب المناطق الجغرافية في المتوسط؟

د. ملولي: في المنطقة الغربية: بعض الأنواع تستغل بشكل مفرط جدا وتحتاج إلى خطط صارمة وإجراءات عاجلة.

في المنطقة الوسطى: الوضع مستقر نسبيا. في المنطقة الشرقية: نلاحظ تباينات كبيرة بين الدول. في الأدرياتيك: مخزون السردين يتدهور بسرعة.

سؤال 9. هل أصبح تغير المناخ عاملا مباشرا في تدهور الموارد البحرية والسمكية؟

د. ملولي: بالتأكيد. لقد أطلقنا شبكة من الخبراء حول المناخ وتأثيره على المصايد، وأول اختبار يخص مصايد سمك “الإسبرط” (le sprat). التأثيرات لم تعد نظرية. يمكن رصدها بالفعل على سلوك الأنواع وتوزيعها وإنتاجيتها.

سؤال 10. ما الرسالة التي توجهونها اليوم إلى الدول المطلة على المتوسط؟

د. ملولي: العلم واضح، الوضع حرج. من دون قرارات شجاعة وسريعة، سنخسر واحدة من أغنى البحار بيولوجيا في العالم. لم يعد لدى المتوسط ترف الانتظار. يجب أن تبدأ الخطوات الآن… قبل فوات الأوان.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!