نداء المتوسط من القاهرة: نحو تحول بيئي يعيد التوازن للحياة

محمد التفراوتيمنذ 3 ساعاتآخر تحديث :
نداء المتوسط من القاهرة: نحو تحول بيئي يعيد التوازن للحياة

المنتدى المتوسطي للبيئة والعمل المناخي بالقاهرة: من الوعي إلى الفعل

نداء المتوسط من أجل الحياة

آفاق بيئية: محمد التفراوتي 

في منعطف بيئي حاسم من تاريخ المنطقة المتوسطية، حيث تتقاطع آثار التغير المناخي مع ضغوط التنمية والتمدن وتراجع الموارد الطبيعية، التأم العشرات من الفاعلين والخبراء والبرلمانيين والصحفيين وممثلي المنظمات النسائية والشبابية من ضفتي البحر المتوسط في العاصمة المصرية القاهرة ما بين 21 و 23 أكتوبر 2025، للمشاركة في المنتدى المتوسطي للأطراف المعنية حول البيئة والعمل المناخي، تحت شعار: «تحفيز التحول السلوكي» (Making the Behavioural Shift Happen).
المنتدى، الذي نظم بتعاون بين مشروع WES-BCA (Water and Environment Support in the Southern Mediterranean) والمكتب المتوسطي للبيئة والثقافة والتنمية المستدامة،(MIO-ECSDE) بدعم من الاتحاد الأوروبي ومشاركة منظمات المجتمع المدني، جاء ليجسد مرحلة جديدة من التحرك الإقليمي المتوسطي المشترك نحو فهم أعمق للتحديات البيئية والمناخية المتسارعة، وإعادة التفكير في سلوكيات الأفراد والمؤسسات والدول تجاه البيئة، بوصفها ركيزة للحياة لا موردا قابلا للاستنزاف.

المتوسط في مواجهة التحول المناخي: سياق متوتر وتحديات متشابكة

انعقد المنتدى في لحظة تتسم بارتفاع درجات الحرارة وتزايد الكوارث البيئية في حوض المتوسط، إذ تصنف المنطقة ضمن أكثر مناطق العالم هشاشة وتأثرا بالتغير المناخي. فندرة المياه، وتراجع التنوع البيولوجي، وتدهور الأراضي، والحرائق المتكررة، وتلوث السواحل، تشكل تحديات عابرة للحدود، تتطلب تنسيقا مؤسساتيا وسياساتيا جديدا.
ورغم الجهود الوطنية والإقليمية المبذولة، فإن التقارير الدولية، وعلى رأسها تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، تؤكد أن المتوسط يواجه تسارعا في ظواهر الجفاف والعواصف البحرية وارتفاع مستوى سطح البحر بوتيرة تفوق المتوسط العالمي. هذا الواقع فرض على صناع القرار التفكير في أدوات جديدة تتجاوز الحلول التقنية إلى تغيير جذري في أنماط الاستهلاك والإنتاج والسلوك المجتمعي.
في هذا السياق، شكل المنتدى مساحة حوارية متقدمة تعيد ربط العلم بالسياسة، والمعرفة بالممارسة، والمجتمع المدني بالمؤسسات التنفيذية. ففضلا عن كونه لقاء تواصليا، فهو مختبرا للأفكار والسياسات المبتكرة التي تعزز التحول من الخطاب إلى الفعل.

من الوعي إلى الفعل: السلوك البيئي كمحرك للتغيير

شعار المنتدى «تحفيز التحول السلوكي» تعبير عن جوهر التحدي البيئي اليوم. كيف نحول المعرفة البيئية إلى التزام فعلي؟
ناقش المشاركون الحاجة إلى ترسيخ ثقافة بيئية جديدة تتأسس على الوعي بالمسؤولية الفردية والجماعية، لأن السياسات مهما كانت طموحة، لن تنجح دون انخراط المواطن في حماية الموارد.
و تحدث الخبراء عن ضرورة إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وتحرير الخطاب البيئي من الجمود الأكاديمي إلى سلوك حياتي يومي. فالمسألة لم تعد ترفا فكريا، بل قضية بقاء ترتبط بالأمن المائي والغذائي والطاقي.
كما أبرزت النقاشات أن التغيير السلوكي لا يتحقق بالوعظ فقط، بل عبر التحفيز، والتعليم، والتشريعات الذكية، ودمج القيم البيئية في المناهج الدراسية والبرامج الإعلامية، وتعزيز القدرات المحلية على مواجهة الأزمات المناخية.

تفاوت شمال/جنوب المتوسط: ضرورة العدالة المناخية

واحدة من النقاط الجوهرية التي طرحت في المنتدى هي مسألة التفاوت بين ضفتي المتوسط. فبينما تتوفر بلدان الشمال على تكنولوجيات متقدمة وتمويلات خضراء قوية، لا تزال بلدان الجنوب تواجه تحديات هيكلية. تتمثل في ضعف التمويل، و هشاشة البنية التحتية، وضغط الحاجيات الاجتماعية.
هذه الفوارق تجعل من الضروري تبني مقاربة تقوم على العدالة المناخية وتقاسم المسؤوليات، مع نقل التكنولوجيا والخبرة إلى الضفة الجنوبية، بما يتيح لها تنفيذ خطط التكيف والمساهمة في خفض الانبعاثات.
و تناقش المشاركون أيضا حول ضرورة تطوير آليات تمويل مبتكرة تشمل البنوك البيئية الإقليمية وصناديق المناخ المحلية، إلى جانب إشراك القطاع الخاص في مشاريع الاقتصاد الأخضر. فالمعركة البيئية لا يمكن كسبها بجهد منفرد، بل بتكامل الرؤى والمبادرات.

التكامل بين الماء والطاقة والغذاء والنظم الإيكولوجية

أحد المحاور العلمية الأساسية التي تناولها المنتدى هو مفهوم نظام الترابط بين الماء والطاقة والغذاء والنظم البيئية (Nexus WEFE)، وهو مقاربة استراتيجية تتيح التفكير في إدارة الموارد بشكل متكامل. فالضغوط على المياه، على سبيل المثال، تؤثر على الإنتاج الزراعي، الذي بدوره يرتبط بالطاقة، وكلها تعتمد على استدامة النظم البيئية. هذا الترابط المعقد يجعل الحلول القطاعية غير كافية.
ولذلك، دعا المنتدى إلى تعزيز التنسيق بين الوزارات والمؤسسات الوطنية، وتوحيد البيانات والمعلومات لمواجهة الأزمات بمنهج شمولي.
كما طرحت مبادرات عملية لتقوية القدرات في الزراعة الذكية مناخيا، والتقنيات المائية المستدامة، والطاقة النظيفة في الريف، مع التركيز على الحلول المحلية المبتكرة المستندة إلى المعرفة التقليدية.

حوار متوسطي يؤسس لوعي جديد

جاء انعقاد المنتدى كتعبير عن حاجة ملحة لبناء جسر تفاعلي بين ضفتي المتوسط، جسر تتقاطع عنده الأفكار والرؤى، وتتبلور فيه إرادة جماعية نحو وعي بيئي مشترك قوامه التعاون، والمسؤولية، والتغيير السلوكي الإيجابي

كما عكست الجلسات دينامية التعاون القائم بين الاتحاد الأوروبي ودول الجنوب المتوسطي، ضمن برامج مثل “MedProgramme” الذي يهدف إلى تعزيز الحوكمة البيئية والحد من التلوث البحري.

وفي هذا الإطار، أكد المشاركون أن المنتدى يندرج في سياق جهود أوسع تشمل التحضير لـ COP24 في برشلونة وUNEA-7 في نيروبي، ما يمنحه بعدا دوليا يتجاوز الحدود المتوسطية.

 التعليم والإعلام البيئي: صناعة وعي جديد

وأجمع المشاركون على أن التحول السلوكي يبدأ من المدرسة والإعلام. هذه كانت إحدى القناعات الراسخة التي أجمع عليها المتدخلون. فالمعارف البيئية يجب أن تنتقل من الدروس النظرية إلى ممارسات يومية عبر التعليم التفاعلي والمبادرات المدرسية والمواطنة البيئية.
كما ناقش الصحفيون والخبراء أهمية الإعلام كأداة للتوعية والمساءلة، ودعوا إلى بناء شبكات للصحافة البيئية المتوسطية، تتيح تبادل الخبرات وإنتاج قصص إنسانية مؤثرة تربط الناس بالبيئة.
الإعلام، كما قيل في إحدى الجلسات، هو «جسر الثقة بين المواطن والسياسات البيئية»، وعليه مسؤولية نقل المعرفة بلغة بسيطة وقريبة من الواقع.

الدبلوماسية البيئية: أداة للتقارب الإقليمي

برز في المنتدى مفهوم الدبلوماسية البيئية كرافعة جديدة للتعاون المتوسطي. فالقضايا البيئية، بما تحمله من طابع كوني، تتيح فرصا لتقريب وجهات النظر وتخفيف التوترات الجيوسياسية.
تحدث بعض المتدخلين عن ضرورة إدماج البعد البيئي في الحوار الإقليمي، باعتباره لغة مشتركة تتجاوز الخلافات التقليدية.
كما تم التأكيد على دور المنظمات المتوسطية مثل الاتحاد من أجل المتوسط (UfM) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP/MAP في بناء الأطر التنسيقية وتعزيز الالتزام السياسي بالدبلوماسية الخضراء.
فمنطقة المتوسط يمكن أن تتحول إلى نموذج عالمي للتعاون المناخي إذا نجحت في ربط الأجندات البيئية بالبعد التنموي والاقتصادي والاجتماعي.

 المنتدى كجسر بين العلم والسياسة والمجتمع

تميزت جلسات المنتدى بحوار متعدد الأصوات جمع بين الخبراء والبرلمانيين وممثلي الحكومات والمجتمع المدني، في تجسيد فعلي لمفهوم الحوكمة البيئية التشاركية.
العديد من المتدخلين شددوا على أن مرحلة إعداد السياسات يجب أن تنفتح على المعطيات العلمية الحديثة، وأن القرارات الحكومية ينبغي أن تستند إلى بيانات دقيقة ودراسات ميدانية.
وقد شكلت المداخلات العملية حول إدارة المياه والتلوث البلاستيكي والنفايات نقطة التقاء بين مختلف الأطراف، مع الدعوة إلى اعتماد مقاربات محلية تشاركية تدمج الشباب والنساء في الحلول البيئية.
في الوقت ذاته، طرحت نماذج ناجحة من مشاريع التعاون في المغرب وتونس ولبنان ومصر…، مما يعكس أن التحول البيئي ممكن حين تتكامل المعرفة والإرادة السياسية.

توصيات وآفاق: نحو التزام عملي ملموس.

خلص المنتدى إلى مجموعة من التوصيات العملية، أبرزها:
تعزيز دمج السلوك البيئي في السياسات الوطنية وخطط التنمية. و دعم البحث العلمي والتقنيات الخضراء وتبادل الخبرات الإقليمية. ثم إشراك الإعلام والتعليم والمجتمع المدني في متابعة تنفيذ الاستراتيجيات البيئية.
تطوير شراكات مبتكرة بين القطاعين العام والخاص لتمويل المشاريع البيئية. و توسيع نطاق الدبلوماسية البيئية كأداة للسلام والتعاون في المنطقة.
هذه التوصيات لم تكن مجرد وثيقة ختامية، بل خريطة طريق نحو تحول مؤسساتي وسلوكي يجعل من حماية البيئة جزءا من التنمية البشرية المستدامة.

 الأمل في زمن التحول

مع اختتام أشغال المنتدى، بدا واضحا أن نداء القاهرة دعوة صريحة لإعادة صياغة علاقتنا بالبيئة على أسس جديدة من التضامن والوعي والمسؤولية. لقد وحد البحر المتوسط صوته من جديد جغرافيا، و جسرا حضاريا وإنسانيا يجمع شماله بجنوبه وشرقه بغربه.
في زمن تتسارع فيه الأزمات، يبقى الأمل في تحول حقيقي يعيد التوازن للحياة، ويجعل من الإنسان جزءا من الحل لا سببا للمشكلة. ويعتبر المنتدى بداية لمسار طويل من الفعل المشترك، يرسم ملامح بيئة أكثر عدلا واستدامة للأجيال القادمة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!