واحات السينما المغربية: بين النظرة والخطاب

محمد التفراوتيمنذ 6 ساعاتآخر تحديث :
واحات السينما المغربية: بين النظرة والخطاب

آفاق بيئية: محمد التفراوتي 

النظرة والخطاب في السينما المغربية: إبحار في أعماق الصورة والمعنى

يمثل كتاب «النظرة والخطاب في السينما المغربية» الصادر باللغة الفرنسية للأستاذ محمد باكريم، إبحارا فكريا ممتدا في بحر السينما، حيث تتلاقى أمواج النظرة وتيارات الخطاب في فضاء متجدد لا يعرف السكون. إنه إضافة نوعية للخزانة السينمائية، بحر زاخر بالمعاني يغري القارئ بالغوص في أعماقه، ويمنحه في كل رحلة صيدا جديدا من المفاهيم والأسئلة والتحليلات.
الكتاب يجمع بين الصرامة التحليلية وحرية الرؤية الفكرية، فيصبح جسرا بين النقد الأكاديمي والإبداع الفني. فـ”النظرة” (Le regard) ليست مجرد فعل بصري، بل تيار عميق يعيد صياغة علاقتنا بالوجود، بينما يشكل “الخطاب” (Le discours) موجة أخرى حاملة للمعنى، تتشابك مع غيرها لتصوغ خرائط جديدة لفهم السينما.
بين المد والجزر، يتيح الكتاب فضاء مفتوحا يمزج بين الفلسفة والسيميائيات والسوسيولوجيا، ليعيد تعريف الصورة السينمائية كنص حي يتجاوز الشاشة ليخترق الوعي الفردي والجماعي. ما يميز هذا النص قدرته على تحويل القراءة إلى رحلة متواصلة، تتعدد فيها الواحات بين الجدلية الفلسفية والجماليات السينمائية، وبين التمثيل والهوية، لتكشف مع كل قراءة بعدا جديدا أو أفقا.غير متوقع.
بهذا المعنى، يقدم الكتاب نفسه كأفق متحرك يتسع لكل قارئ. الباحث الأكاديمي الذي يسعى للمفهوم والدليل، والممارس السينمائي الباحث عن الإلهام، والقارئ العادي الراغب في اكتشاف الصورة كرحلة ودهشة. إنه بحر متعدد الضفاف، ضفاف “النظرة” و”الخطاب”، ضفاف الفن والفكر، ضفاف الذات والمجتمع، ومن خلال هذا التعدد يستمد حيويته وقدرته على البقاء حاضرا في النقاش النقدي العربي والدولي.

قراءة أولى للعنوان: ثلاثة مسارات، النظرة والخطاب والتفاعل بينهما

قبل أن أفتح طيات هذا الكتاب، قضيت وقتا ليس بالقصير في تأمل عنوانه، محاولا استشعار ما يختزنه من عمق وإيحاءات. في قراءة أولى، بدا لي العنوان “النظرة والخطاب في السينما المغربية” وكأنه يرسم ثلاثة مسارات متشابكة: النظرة، الخطاب، والتفاعل بينهما. إنه عنوان استفزازي، يضع أصبعه على ثنائية جوهرية تشكل قلب أي عمل سينمائي، ويطرح السؤال المركزي. كيف تتفاعل “النظرة”، أي البعد البصري والجمالي، مع “الخطاب” المتجلي في البعد السردي والفكري لتنسيق المعنى في السينما المغربية؟

لغة العين والكاميرا: “النظرة”

“النظرة” تمثل البعد البصري والجمالي للفيلم. إنها الرؤية التي تقدمها السينما المغربية للعالم. هل هي واقعية، شعرية، نقدية، حالمة أم متشائمة؟ كيف تشكل خيارات الإضاءة والتكوين واللون وزوايا التصوير رؤيتنا للشخصيات والأماكن؟ كيف يصور المدينة مقابل القرية، المرأة مقابل الرجل، الفضاء التقليدي مقابل الحديث؟ ومن يمتلك “النظرة” في الفيلم. المخرج، الشخصية، أم المجتمع؟ وهل ثمة “نظرة مغربية” مميزة يمكن تمييزها؟

لغة الكلمة والفكرة: “الخطاب”

الخطاب يتناول البعد الفكري والموضوعاتي والرسالة التي يحملها الفيلم. ما هي الخطابات السائدة في السينما المغربية؟ خطاب الهوية، الذاكرة، النقد الاجتماعي، المرأة، البيئة… كيف يبنى كل خطاب من خلال الحبكة، الحوار، وتطور الشخصيات؟ وكيف يتفاعل مع الخطابات الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة؟ وهل شهد الخطاب السينمائي المغربي تحولات عبر العقود؟

التفاعل بين “النظرة” و”الخطاب”

هذا المحور يمثل جوهر الإجابة على السؤال الذي يطرحه العنوان. كيف “تتحدث” الصورة وتنتج خطابا؟ كيف يمكن لمشهد بلا حوار أن ينقل رسالة قوية؟ متى يتوافق الخطاب مع النظرة، ومتى يتناقض معها؟ قد تقدم النظرة صورة جميلة لمكان ما، بينما يحكي الخطاب عن مشكلات اجتماعية، فتولد التناقضات إحساسا بالمأساة أو السخرية.

إبحار نقدي في واحات السينما

يتناول الكتاب قضايا مثل السينما والذاكرة، السينما الاستعمارية، وظيفة النوادي السينمائية، صورة المرأة والتحولات الجمالية. يناقش كيف يساهم النادي السينمائي في تطوير الذوق وتحفيز التفكير النقدي، وكيف يمكن أن يتحول إلى فضاء للتعلم والتحليل في زمن هيمنة الصورة الرقمية.

المحور الثاني: قراءة المخرجين

يستعرض الكتاب تجارب مخرجين مغاربة بارزين مثل جيلاني فرحاتي، و عبد القادر لقطع، و سهيل بن بركة، و ونبيل عيوش، و حمد مفتكر، و هشام لعسري و تالا حديد، وحكيم بلعباس، و فوزي بنسعيد. كل مخرج يمثل واحة فكرية وفنية، مع مسارات مختلفة بين المحلي والكوني، بين التجربة الفردية والانتماء للنظام السينمائي.

المحور الثالث: الافلام والتوجهات

يقدم الكتاب نصوصا تحليلية معمقة لأفلام مثل ” آدم” (Adam) و “معجزة القديس المجهول”،  (Le Miracle du Saint Inconnu)، و “زنقة كونطاكط”(Zanka Contact)، و ” “صيف في بجعد” (Un été a Boujad)، و “قتلة زهرة القمر”(Killers of the Flower Moon)، و غيرها، مع رصد التحولات في الذائقة السينمائية والتأثيرات الرقمية. و يتناول الكتاب  تحول السينما بين الاستقلالية والاندماج مع المنصات، وكيف تعيد الشاشة العالمية تشكيل العلاقة بين المشاهد والفيلم.

السينما في عصر الشاشات اللامتناهية

يناقش الكتاب مكانة السينما والنقد في زمن الطوفان الرقمي، حيث تتعدد الشاشات وتتقاطع الصور. يعيد الكتاب مساءلة وظيفة النقد السينمائي أمام هذا الطوفان، مؤكدا أن التحليل لم يعد ترفا بل ممارسة معرفية وبيداغوجية تعيد للسينما مكانتها كفن للمعنى لا مجرد منتج للترفيه. كما يشير الكتاب الى التحولات الجمالية والثقافية من الاعتماد على الصورة الكلاسيكية الى النمط الجديد الذي يميز عصر الشاشة العالمية، حيث تتداخل الأفلام مع التلفاز، الاعلام، الإعلان، وتصبح الصورة وسيلة للتواصل ادأكثر منها مجرد عرض بصري.

بورتريهات وواحات البحر

يستعرض الكتاب المخرجين والسينمائيين كموجات البحر المتعددة، كل تجربة تقدم خريطة جديدة لفهم الصورة وحركة المعنى. من سهيل بن بركة الذي عبر من المحلي الى الكوني، الى فوزي بنسعيد صاحب فن التوليف البصري، و هشام العسري الذي يمضي منفردا في تجربته، و تالا حديد التي ترى الفيلم كخريطة للعالم.

الغوص في الاعماق

كل فصل من الكتاب هو واحة من الأسئلة، كل نص هو غوص في عمق البحر، وكل قراءة تكشف بعدا جديدا أو أفقا غير متوقع. الكتاب يعد دراسة نقدية،  وإعلان حب للسينما وتجربة فكرية تمنح القارئ فرصة الغوص في بحر الصورة وفهم أعماقها.
يمثل الكتاب إضافة نوعية للخزانة السينمائية العربية، وفضاء مفتوح للوعي والمعرفة، وبحر لا ينضب من التيارات والمدارات، يعيد للقراءة معناها كسفر دائم بين أمواج الفكر وواحات الخيال. لكل من دخل قاعة مظلمة يوما، ولكل من أراد ان يقرأ الصورة قبل أن يراها، هذا العمل يمثل رحلة فكرية وعاطفية ممتدة، تقربنا من جوهر السينما في عصر الشاشات اللامتناهية، وتعيد التأكيد على أهمية النقد والتحليل في فهم الفن السابع.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!