معاهدة أعالي البحار ورسائلها المتوسطية

محمد التفراوتيمنذ 3 ساعاتآخر تحديث :
© INRH_by Dr. Mohamed Naoufal TAMSOURI
© INRH_by Dr. Mohamed Naoufal TAMSOURI

المتوسط بين السيادة الوطنية والمناطق الاقتصادية

آفاق بيئية: محمد التفراوتي

يتميز البحر المتوسط بخصوصية قانونية فريدة. فعلى عكس المحيطات الشاسعة التي تتضمن مساحات واسعة من أعالي البحار، فإن مياهه تكاد تقسم بالكامل بين الدول المطلة عليه. فجزء منه يخضع للسيادة الوطنية المباشرة في إطار البحار الإقليمية (نحو 12 ميلا بحريا)، بينما تبسط الدول سلطاتها الاقتصادية في مناطق أوسع تعرف بـالمناطق الاقتصادية الخالصة، حيث تملك حقوقا في استغلال الموارد الطبيعية دون سيادة كاملة. ونظرا لضيق البحر وتداخل السواحل، لا تكاد تتبقى فيه مناطق تصنف كأعالي البحار، ما يجعله بحرا بين السيادة الوطنية والمناطق الاقتصادية، بلا فراغ دولي مستقل كما هو الحال في المحيطات.

فجوة الحماية بين النص والتنفيذ

و رغم أن البحر المتوسط لا يصنف كأعالي البحار بموجب معاهدة الأمم المتحدة لحفظ التنوع البيولوجي البحري في المناطق الواقعة خارج نطاق السيادة الوطنية (BBNJ)، إذ إن جميع مياهه تقع ضمن السيادة الوطنية للدول المشاطئة أو مناطقها الاقتصادية الخاصة، إلا أن المبادئ والأدوات العلمية التي تروج لها المعاهدة تظل ذات أهمية بالغة. فإدارة المخزونات السمكية وتحديد المناطق البحرية المهمة بيئيًا يمكن أن تستفيد من نماذج توزيع الأنواع والتقييمات البيئية الصارمة، بما يعزز حماية التنوع البيولوجي والاستدامة البيئية في المتوسط، ويتيح تحقيق توازن أفضل بين المصالح الاقتصادية والبيئية للدول المشاطئة والمجتمعات الساحلية.

ويشهد البحر المتوسط هشاشة جلية وحاجة ملحة لتعزيز الحماية. وحسب تقرير الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) ، فإن المحميات البحرية المعينة في المتوسط تبلغ حوالي 9.68 في المائة من مساحته، لكن من بينها فقط 1.27في المائة تدار فعليا بخطة تنفيذ فعالة.  و توجد في المتوسط أكثر من 1000 محمية بحرية معلنة تغطي نحو 6.5 في المائة من المسطح البحري، لكن منها فقط 76 محمية تحصل على درجة حماية كاملة تغطي  0.04 في المائة من البحر.

هذه الفجوة بين الإعلان والتنفيذ هي تحد يومي على الضفة المتوسطية، وتوضح أن مجرد وجود مناطق محمية لا يكفي، بل التنفيذ والمراقبة هما الأساس.

معاهدة أعالي البحار: منارة تتجاوز المحيطات

إن التفعيل الدولي لمعاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار بشأن حفظ التنوع البيولوجي البحري واستخدامه المستدام في المناطق الواقعة خارج نطاق الولاية الوطنية  (BBNJ)، وهي صـك دولـي ملـزم قانونيا، حمل دلالات مهمة للضفة المتوسطية. المتوسط غارق في تفاعلات بيئية واجتماعية واقتصادية تتصل بالمحيطات، فإذا ما تغلبت المعاهدة على عوائق الحوكمة للمحيطات، فإن هذه المكاسب يمكن أن تستلهم لتحسين إدارة البحر المتوسط، وخصوصا في مجالات حماية التنوع، تقييم التأثيرات البحرية العابرة، ودعم قدرات الدول الأقل مواردا.

في هذا السياق، يمكن أن نرى المتوسط كـجسر بين العالم المغلق المائي (حيث تحكمه الولايات الوطنية) والعالم المفتوح للمحيطات، ما يحدث في أعالي البحار، من صيد عميق أو استغلال معدني، قد ينعكس على التوازن البيني والنظم الحيوية التي تربط المتوسط بالمحيطات الأطلسية.

تبرز معاهدة أعالي البحار كإشارة دولية قوية، إذ تضع معايير إلزامية لحماية التنوع البحري وتفرض أدوات تقييم التأثير البيئي، وتشجع على إنشاء محميات بحرية فعالة. وقد احتفل قادة العالم بهذا الإنجاز التاريخي في نيويورك، معتبرين أن حماية نصف كوكب الأرض أصبحت ممكنة قانونيا. أما بالنسبة للبحر المتوسط، الذي يقع معظم مياهه ضمن سيادة الدول، فإن المعاهدة تشكل منارة توجيهية وقوة ضغط دولية يمكن أن تستلهمها الضفة المتوسطية لتحسين إدارة التنوع البيولوجي، تقييم التأثيرات العابرة، وتعزيز قدرة الدول الأقل مواردا على حماية بيئتها البحرية.

النماذج المتوسطية: بين الواقع والطموح

فإذا تم أخذ مثال سمك الدنيس الوردي (Pagellus bogaraveo)، النوع التجاري المرغوب في الساحل المغربي والإسباني، في بحر البوران، تبنت الهيئة العامة لمصايد الأسماك في البحر الأبيض المتوسط ( GFCM) خطة إدارة متعددة السنوات لضبط الصيد وضمان استدامة النوع. كما أظهر بحث جديد اندماج البيانات البيئية والمصايد لتحديد المناطق التي يستحب حمايتها مكانيا لحماية هذا النوع من الإفراط في الصيد. هذه التجربة تمثل “نموذجا متوسطيا” يمكن أن يزدهر إذا رافقته معايير عالمية مشجعة مثل معاهدة أعالي البحار. و تؤكد أن الإدارة المكانية المدروسة والمستندة إلى الأدلة العلمية يمكن أن تصبح محورا رئيسيا في حماية التنوع البيولوجي البحري في البحر المتوسط، وتشكل قاعدة صلبة لوضع سياسات صيد مستدامة، وربط جهود حماية أعالي البحار بالمصالح المحلية في المناطق الساحلية، بما يحقق الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية معا.

إذا، رغم أن المعاهدة لا تطبق مباشرة على مياه المتوسط، إلا أنها تشكل منارة توجيهية وقوة ضغط دولية يمكن أن تعيد ترتيب أولويات الضفة المتوسطية: من تقييم الأثر البيئي إلى حماية شاملة وربط المحميات، إلى بناء القدرات وتبادل المعرفة. فالمعاهدة ليست هدفا لبعيد، بل فرصة تدفع المتوسط ليكون جزء فاعلا من التشابك البحري العالمي، لا مجرد ساحل يراقب من بعيد ما يجري في المحيطات.

صوت الخبراء: تحذير وأمل

وأفاد السيد “أنيول إستيبان”، مدير مؤسسة “ماريلس” (Fondation Marilles)، أن البحر المتوسط يحتضن 11 في المائة من الأنواع البحرية المعروفة في العالم رغم أنه لا يمثل سوى 0,3 في المائة من حجم المحيطات. غير أن هذه الثروة الطبيعية مهددة بفعل غياب التحرك الكافي، مما ينذر بخسارة بيئية خطيرة ستزيد من هشاشة منطقة تعيش أصلا على وقع أزمات متعددة، وتقلل من قدرتنا على مواجهة تداعيات التغير المناخي. وأضاف قائلا «إن معظم المخزونات السمكية في المتوسط تعاني من الاستغلال المفرط، فيما اختفت أنواع بارزة مثل سمك المنشار أو أسماك القرش المطرقة أو هي على وشك الانقراض. كما أن الضغوط الناتجة عن السياحة والنقل البحري تتزايد باستمرار، بينما ترتفع حرارة مياه المتوسط بوتيرة مضاعفة مقارنة بباقي المحيطات

و رغم هذه الصورة القاتمة أكد أن هناك أمل. فمخزون التونة الحمراء يتعافى بعد أن كان قبل عقد مهددا بالانقراض. وفي مناطق محمية مثل خليج “غوكوفا” بتركيا، الذي كان شبه خاو، عادت الحياة تزدهر فيه من جديد، بما في ذلك فقمة الراهب وأسماك القرش الرمادية. كما أن أساطيل صيد مبتكرة في جزر البليار تثبت أن الصيد الأقل يمكن أن يحقق أرباحا أكثر. أما منظمات المجتمع المدني، فقد أصبحت أكثر تنظيما داخل تحالفات وائتلافات تعمل بجدية من أجل استعادة المخزونات السمكية وتوسيع المساحات البحرية المحمية وإحياء المتوسط. ذلك أن تشخيص الوضع والحلول بات واضحا. “نحتاج إلى زيادة وتجويد المناطق البحرية المحمية لتغطي 30 في المائة من مياهنا، مع إغلاق واحد من كل عشرة كيلومترات مربعة أمام الصيد وكل الأنشطة الاستخراجية. كما يجب تحويل قطاع الصيد إلى نشاط مستدام منخفض الأثر، وتنفيذ خطط عمل لحماية الأعشاب البحرية ك”البوسيدونيا” والموائل المرجانية، والتقليص من الضغوط المتنامية على المتوسط. والأهم، رفع الاستثمارات في مجال الحفاظ على البحار، حيث يمكن أن يساهم تخصيص 1 في المائة من الميزانيات الوطنية، مع دعم القطاع الخاص، بشكل كبير في إعادة الحياة إلى البحر”. وأشار السيد “أنيول إستيبان أن ازدهار منطقة المتوسط، وسكانها، وقطاعاتها الحيوية مثل السياحة والصيد، رهين برأسمال طبيعي سليم. واستعادة المتوسط إلى حالة ممتازة من الحفظ هو أفضل ضمان لمستقبل تدفقات السلع والخدمات التي يوفرها.

المتوسط مرآة للمحيطات

يشكل البحر المتوسطي مرآة للمحيطات وإن كان محكوما بالسيادات الوطنية. فهو مختبر صغير للتوازن بين المصالح الاقتصادية والبيئية، بين السيادة الوطنية والمسؤولية العالمية. حماية المتوسط ليست شأنا محليا فقط، بل رسالة كونية تؤكد أن الحفاظ على ثروات البحر هو الضمانة الحقيقية لازدهار الإنسان والطبيعة معا.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!