آفاق بيئية : جيلا بازارباشيوغلو – أيهان كوسى
مما لا شك فيه أن نمو إنتاجية العمل- أي الناتج الذي يحققه كل عامل- هو المصدر الرئيسي لنمو نصيب الفرد من الدخل على نحو دائم، ويعمل ذلك على تقليص الفقر. ومن الممكن أن تؤدي جائحة كورنا إلى زيادة خفض نمو الإنتاجية، بعد 10 سنوات من التراجع على نطاق واسع، وهذا يدعو للقلق ويتطلب تكثيف الجهود لتحقيق أهداف التنمية في إطار جهودنا الرامية إلى تحقيق التعافي وإعادة البناء.
وبحسب دراسة جديدة للبنك الدولي بعنوان “الإنتاجية العالمية: الاتجاهات والدوافع والسياسات” فمن الجلي للعيان أن نمو الإنتاجية قد أسهم إسهامًا كبيرًا في رفع مستويات المعيشة: فالأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي حققت أسرع نمو في إنتاجية العمل خلال فترة السنوات 1980 – 2015 عملت على خفض معدلات الفقر المدقع بأكثر من نقطة مئوية في المتوسط. وخلال هذه الفترة الزمنية نفسها، زادت معدلات الفقر في البلدان التي تراجعت فيها معدلات نمو الإنتاجية.
على الرغم من أن فجوة الإنتاجية بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة لا تزال كبيرة، فإن تراجع معدلات الفقر المدقع إلى 10% من سكان العالم مقارنة بما بلغ 36% بين عامي 1990 و 2015 يعد علامة مشجعة على أن البلدان الأكثر فقراً تحقق زيادة في الإنتاجية والدخل.
ومما يُؤسف له تلاشي العديد من العوامل التي أدت إلى تحسين الإنتاجية خلال العقود السابقة في السنوات الأخيرة. وبلغ معدل نمو الإنتاجية العالمية ذروته في 2007. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية 2007-2009، شهدت الأسواق الصاعدة والبلدان النامية أكبر معدلات التراجع في نمو الإنتاجية وأطولها أمدًا وأشدها وطأة، ونجم عن ذلك مخاطر اكتنفت المكاسب التي تم تحقيقها بشق الأنفس في سبيل اللحاق بركب البلدان المتقدمة. وتمثل جائحة كورنا وضرباتها المتلاحقة التي أصابت العالم تهديدًا بزيادة خفض معدلات الإنتاجية.
وتتمثل الأولوية الملحة في التصدي للتحديات الصحية والاقتصادية الجسام التي فرضتها هذه الجائحة. وبناء على تصور واضعي السياسات للتعافي وإعادة البناء، من الضروري أن تكون مهمة إعادة إحياء نمو الإنتاجية على قمة أولويات العمل لاستعادة ما فُقد. وحتى يتسنى رسم طريق المضي قدمًا، لا بد من إلقاء نظرة شاملة على تطور عجلة الإنتاجية وفهم ما يدفعها، وما هي خيارات السياسات الموجودة في البيئة الحالية لإعادة إحيائها.
وإذا نظرنا إلى الإجراءات الخاصة بزيادة الإنتاجية في الاقتصادات (البلدان) الصاعدة والنامية والمتقدمة على مدى الأربعين سنة الماضية نجد تحقق مكاسب الإنتاجية من خلال إعادة تخصيص الموارد من القطاعات الأقل إنتاجية إلى القطاعات الأكثر إنتاجية، مثل التحول من العمل في الصناعات التحويلية الأقل قيمة إلى الخدمات، وفي نهاية المطاف تسير هذه المكاسب في المسار الخاص بها. وبالإضافة إلى ذلك، أدى ركود التحصيل العلمي وتوقف نمو سلسلة الإمداد العالمية إلى الحد من نمو الإنتاجية. وشارك في ذلك توقف أو تراجع عملية التنوع الاقتصادي، والنمو العمراني، والابتكار. ويُضاف إلى ذلك سلسلة من الصدمات المعاكسة، وكان آخرها جائحة كورونا. كما أضحت الكوارث الطبيعية أكثر شيوعًا وانتشارًا. وكانت أوبئة سارس وإيبولا وزيكا من الأوبئة الصحية التي سبقت جائحة كورونا في هذا القرن فقط، كما أرخت الحروب والصراعات المسلحة سدولها وخيمت بظلالها الكئيبة.
وتعمل جائحة كورونا الآن على تضخيم العوامل التي تؤثر سلبًا على معدلات نمو الإنتاجية. وقد تتراجع معدلات الاستثمار والتبادل التجاري ــ وهما يقومان بدور غاية في الأهمية لدفع عجلة الإنتاجية ــ مع ضبابية المشهد وانعدام اليقين الذي يكتنف هذه الجائحة والمشهد الجديد لأنشطة الأعمال الذي سيظهر مع نهايتها. ونظرًا لتوقف العملية التعليمية وفقدان أجزاء من المناهج، سيتراجع تراكم رأس المال البشري لدى العديد من الشباب والصغار. وقد تؤدي القيود على الحركة إلى إبطاء التحول إلى شركات وقطاعات أكثر إنتاجية.
وقد تكون هناك أيضًا فرص لتعزيز الإنتاجية يدعمها بحثنا عن حلول للتحديات التي تواجهنا. ومن المفارقات أن تسريع وتيرة اعتماد التكنولوجيا، ودمج التكنولوجيات الرقمية في الصناعات التحويلية وأنشطة التصنيع، والتمويل، والتعليم ، وتحسين قدرة سلاسل الإمداد على مجابهة الأخطار يُعتبر من بين العوامل التي ساعدت على تعزيز الإنتاجية على الرغم من الاضطرابات التي أحدثتها هذه الجائحة.
وعلى واضعي السياسات ضمان توزيع أي مكاسب في هذه المجالات على نحو متساوٍ، وإدارة أي تحولات في سوق العمل تتعلق بالتكنولوجيا من خلال التدريب وتوفير الحماية الاجتماعية. ومن شأن الاستثمارات الحكومية لتوفير الإنترنت على نطاق واسع توسيع نطاق توافر خدمات التعليم والتدريب ذات الجودة عبر الإنترنت. وتجدر الإشارة إلى تراجع احتمالية أن تحل الأتمتة محل قوة العمل الأفضل تعليمًا.
ويدعونا السياق الأوسع نطاقًا إلى النظر في كيفية استعادة مكاسب الإنتاجية أو تعزيزها مع انحصار هذه الجائحة. وقد يكون الغرض من بعض الأمثلة السابقة هو الإيضاح. ونجح عدد من الاقتصادات الصاعدة والنامية بشكل خاص في سد فجوة الإنتاجية مع الاقتصادات المتقدمة. فهناك قواسم مشتركة بينها: أساس تعليمي قوي، وقوة مؤسسية، وهيكل إنتاج متنوع.
وباستشراف آفاق المستقبل، ستختلف أولويات السياسات من منطقة إلى أخرى. فعلى سبيل المثال، ستكون السياسات الرامية إلى تعزيز الاستثمار ذات أهمية خاصة في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء حيث توجد فجوات كبيرة في البنية التحتية، وفي منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي نظرًا لتراجع وانكماش الاستثمارات هناك. ومن شأن مبادرات تعزيز التحصيل العلمي أن تحفز مكاسب الإنتاجية في منطقتي جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء.
ومن الممكن أن يكون التنوع الاقتصادي مفتاحًا لتعزيز الإنتاجية في المناطق التي اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على إنتاج الطاقة والمعادن، مثل أوروبا وآسيا الوسطى، وأمريكا اللاتينية البحر الكاريبي، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء.
وبالإمكان تعزيز سياسات إعادة تنشيط تبني التكنولوجيا والابتكار من خلال تعزيز حقوق الملكية الفكرية في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، أو تقليص ملكية الدولة في أوروبا وآسيا الوسطى، أو تحديث وتحسين لوائح العمل الصارمة في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي.
ومن الممكن أن يؤدي تقليل الحواجز التجارية وزيادة الاندماج في سلاسل القيمة العالمية إلى حفز زيادة الإنتاجية على مستوى الشركات وفي جميع المناطق. ونظرًا لإمكانية حدوث ضغوط مالية في الأشهر المقبلة، ستكون الشفافية في الاستثمارات والديون غاية في الأهمية لتحقيق نواتج إنمائية جيدة.
وعلى ضوء الدور الواضح للزراعة وتدني معدلات إنتاجيتها في العديد من البلدان المنخفضة الدخل، فإن سياسات زيادة الإنتاجية الزراعية من خلال الاستثمار في البنية التحتية وحقوق الملكية والأراضي ستؤتي ثمارًا كبيرة أيضًا.
ويتسم تباطؤ الإنتاجية بالتعقيد، وسيتطلب ذلك حلولًا متعددة الأوجه. ونظرًا للتهديدات التي تفرضها هذه الجائحة على الإنتاجية، من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة على مستوى السياسات لوقف التراجع في الإنتاجية. وإذا أردنا أن نركز على جني مكاسب القضاء على الفقر حتى ونحن نواجه الصدمة المدمرة لجائحة كورونا، علينا إيجاد سبل لدفع عجلة نمو الإنتاجية وتحقيق نمو مستدام ومتوازن ومنصف للدخل.
*جيلا بازارباشيوغلو: نائبة الرئيس، النمو المتكافئ والمالية والمؤسسات
*أيهان كوسى : مدير مجموعة آفاق التنمية في مجموعة البنك الدولي