آفاق بيئية : أندريه هوفمان
ليس لدى العلماء أدنى شك من ان تدمير الطبيعة يجعل البشرية اكثر عرضة وبشكل متزايد لتفشي الامراض مثل جائحة كوفيد –19 والتي أصابت الملايين بالمرض وقتلت مئات الالاف منهم بالإضافة الى تدمير سبل العيش لاعداد لا حصر لها من الناس. ان هذه الجائحة سوف تعيق حصول انتعاش اقتصادي على المدى الطويل وذلك لإن أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للعالم يعتمد على الطبيعة بطريقة او بأخرى. هل يمكن ان تكون ازمة كوفيد-19 بمثابة جرس انذار وفرصة في الوقت نفسه من اجل تغيير المسار ؟
بينما أدعى بعض السياسيين ان جائحة في مثل هذا الحجم لم تكن متوقعه ، يعتقد الكثير من الخبراء انها كانت محتومة وذلك نظرا لانتشار الامراض ذات المصدر الحيواني وهي مسببات الامراض التي تنتقل الى البشر من الحيوانات . ان اكثر من 60% من الامراض المعدية الان ذات مصدر حيواني .
ان تكثيف الأعمال الزراعية وتربية المواشي وإزالة الغابات واستغلال الحيوانات البرية هي ممارسات مدمرة نعتبرها اعمالا عادية ولكنها تضعنا في واقع الامر في اتصال أوثق مع الحيوانات مما يخلق الظروف المثالية لانتشار الامراض وعليه فإن الايبولا ومرض نقص المناعة المكتسبة ومتلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس ) ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) والتي هي جميعا ذات مصادر حيوانية كانت بمثابة تحذيرات فشل العالم في الالتفات اليها.
لكن كوفيد -19 يمكن ان يكون مختلفا حيث اظهر بشكل اكثر وضوحا مقارنة بإي من الامراض التي سبقته العلاقة الوثيقة التي تربط صحة البشر ورفاهيتهم برفاهية الكوكب وسلامته ومدى ضعف البشر في مواجهة ذلك . ان الادعاءات بإن حماية البيئة قد تسحق الاقتصادات لم تعكس قصر نظر تلك الادعاءات فحسب بل جاءت كذلك بنتائج عكسية . ان التدمير البيئي هو الذي تسبب في تعطيل الاقتصاد العالمي .
بالإضافة الى ذلك وبعكس الامراض السابقة التي تفشت مؤخرا فإن كوفيد-19 قد أدى الى تدخل غير مسبوق من الدول حيث أصبحت الحكومات على مستوى العالم تطور وتطبق استراتيجيات شاملة للانتعاش وهذا يعطينا فرصة ذهبية لترسيخ حماية البيئة والمحافظة عليها في انظمتنا الاقتصادية .
ان هناك اثنين من المبادئ اللذين يشكلان استراتيجيات الانتعاش. أولا ، ان التحفيز لوحده ليس كافيا فالأحكام واللوائح البيئية التي تتم صياغتها بمشاركة فعالة من قطاع الاعمال والمستثمرين هي أيضا حاسمة . ثانيا ، يجب تخصيص الانفاق العام بطرق تدعم تحقيق توازن افضل بين صحة المجتمعات والاقتصادات والبيئة وهذا يعني الاستثمار في الصناعات الصديقة للبيئة وخاصة تلك التي تقربنا بشكل اكبر الى اقتصاد مدور أي اقتصاد يهدف الى إعادة تدوير المنتجات من اجل اعادتها في السلسلة .
لقد وجد كبار الاقتصاديين مثل الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيجليتز ونيكولاس ستيرن ان حزم الانتعاش الصديقة للبيئة تعطينا عوائد افضل بكثير وعدد أكبر من الوظائف قصيرة المدى وتوفير افضل وطويل المدى في النفقات مقارنة بالتحفيز المالي التقليدي فعلى سبيل المثال فإن بناء بنية تحتية للطاقة النظيفة –خاصة نشاط يعتمد بشكل كبير على العمالة-سيخلق ضعف الوظائف لكل دولار مقارنة بالاستثمارات في الوقود الاحفوري .
ان الأولويات الأخرى تتضمن الاستثمار في الرأسمال الطبيعي مثل احياء الأنظمة البيئية للغابات على نطاق واسع علما ان هذا سيؤدي الى العديد من العوائد القيمة والتي تمتد من تعزيز التنوع البيئي والتقليل من الفيضانات الى امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو ومن اجل تكملة مثل تلك الجهود ودعمها يتوجب مسائلة البنوك وغيرها من الكيانات المالية على سياساتها الاقراضية التي تؤدي إلى تأجيج الازمات المتعلقة بالطبيعة والمناخ.
ان بعض أصحاب القرار يعترفون بهذه الحقيقة فلقد نشر صندوق النقد الدولي إرشادات عامة تتعلق بالانتعاش الصديق للبيئة كما دعت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا بإن يتم ربط عمليات انقاذ الشركات بالشروط البيئية علما ان الحكومة الفرنسية تبنت بالفعل مثل هذه المقاربة .
بالإضافة الى ذلك يقوم الاتحاد الأوروبي بصياغة خطة انتعاش صديقة للبيئة تتعلق بكوفيد-19 والتي ستكمل الصفقة الأوروبية الصديقة للبيئة وهي تهدف الى استعادة التنوع البيئي وتسريع التحول الى اقتصاد صفر الكربون. لقد قامت مجموعة أوروبية تتألف من 180 سياسي وشركة ونقابة ومجموعة ضغط ومركز أبحاث بإصدار رسالة مؤخرة يحثون فيها قادة الاتحاد الأوروبي على تبني إجراءات تحفيز صديقة للبيئة.
ولكن من اجل تحقيق انتعاش عالمي مستدام ، يتوجب على المزيد من الحكومات تبني سياسات انتعاش صديقة للبيئة وحاليا فإن العديد من تلك الحكومات تعمل العكس تماما حيث تخصص الموارد للصناعات والنشاطات المدمرة للبيئة.
على سبيل المثال وطبقا لإبحاث شارك فيها ستيجلتز وستيرن فإن حزم الإنقاذ غير المشروطة المقدمة لشركات الطيران عادة ما تعطي نتائج تعتبر الأسوأ بالنسبة للتأثير الاقتصادي والسرعة ومقاييس المناخ وبالرغم من ذلك يتم ضخ المليارات في شركات الطيران تلك وغالبا بدون التزامات تذكر.
في واقع الأمر وطبقا لتقرير مؤشر التحفيز الصديق للبيئة والذي تم نشره مؤخرا فإن اكثر من ربع الانفاق التحفيزي لغاية الان في 16 اقتصاد رئيسي من المرجح ان يتسبب في ضرر بيئي كبير ودائم . ان البعض مثل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد قامت كذلك بتخفيف القواعد التنظيمية الحالية المتعلقة بالبيئة وذلك من اجل مساعدة الملوثين الرئيسيين على الانتعاش مجددا.
ان هناك صعوبات متزايدة تواجه محاولات تبرير مثل تلك المقاربة حيث يجب ان نتذكر انه قبل الجائحة كانت البلدان تشهد حرائق غابات غير مسبوقة وفيضانات مدمرة وبينما يتقدم التغير المناخي فإن الأنواء المناخية القاسية والتي تؤدي لمثل تلك الكوارث سوف تصبح أقوى وأشد وسوف يتكرر حدوثها بشكل اكبر .
ان بإمكان السياسيين وأصحاب المصالح الخاصة ان يقوموا بتحويل الانتباه عن التحديات القادمة ولكن هذا لن يمنع الأزمات المستقبلية من الحدوث ومن المؤكد ان تلك الازمات لن تنتظر حتى يتم اكمال الانتعاش المرتبط بكوفيد-19 بل على العكس من ذلك فإن العودة الى الوضع السابق قد يؤدي الى تسريع حدوث مثل تلك الازمات.
عوضا عن الانتقال من ازمة الى أخرى ، يتوجب علينا ان نبني أنظمة اكثر مرونة وصلابة اليوم. ان وضع قضية احياء البيئة والمحافظة عليها في قلب الانتعاش بعد كوفيد-19 هي نقطة مثالية للبدء.
بروجيكت سنديكيت
*أندريه هوفمان : رجل أعمال ومحسن ، هو رئيس مؤسسة MAVA ونائب رئيس Hoffmann-La Roche.