الصين والرؤية الجريئة لمستقبل الطاقة

محمد التفراوتي10 أبريل 2018آخر تحديث :
الصين والرؤية الجريئة لمستقبل الطاقة

 

 

 

 

 

 

آفاق بيئية : البروفسور جيفري ساكس

تأتي الخطة الأكثر جرأة لتحقيق الأهداف التي حددها اتفاق باريس للمناخ في عام 2015 من الصين. يلزم اتفاق باريس حكومات العالم بمنع الارتفاع في درجات الحرارة العالمية من تجاوز درجتين مئويتين فوق مستوى ما قبل الصناعة. ويمكن تحقيق هذا في الأساس من خلال تحويل مصادر الطاقة الأولية في العالَم من الوقود الأحفوري القائم على الكربون (الفحم، والنفط، والغاز الطبيعي) إلى مصادر متجددة غير كربونية (طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة المائية، والطاقة الحرارية الأرضية، والمحيطات، والكتلة الحيوية)، والطاقة النووية بحلول عام 2050. وتقدم منظمة تواصل الطاقة العالمي رؤية مبهرة لكيفية تحقيق هذا التحول في الطاقة.

الواقع أن قِلة من الحكومات تقدر حجم هذا التحول. ويتحدث علماء المناخ عن “ميزانية الكربون” ــ الكمية الإجمالية من ثاني أكسيد الكربون التي يستطيع البشر إطلاقها في السنوات المقبلة مع الإبقاء على الزيادة في درجات الحرارة العالمية في حدود درجتين مئويتين. وتشير التقديرات الحالية إلى نقطة وسطى لميزانية الكربون العالمية بنحو 600 مليار طن. تطلق البشرية حاليا نحو 40 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا، وهذا يعني أن العالَم أمامه حتى منتصف القرن فقط أو ربما حتى قبل ذلك للتخلص تدريجيا من الوقود الأحفوري والتحول الكامل إلى مصادر خالية من الكربون تماما للطاقة الأولية.

وإليكم ما ينبغي لنا أن نفعل. يجري توليد الكهرباء اليوم عن طريق حرق الفحم والغاز الطبيعي إلى حد كبير؛ ونحن في احتياج إلى التخلص التدريجي من محطات الطاقة الحرارية هذه والاستعاضة عنها بالكهرباء المولدة عن طريق الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة النووية، وغير ذلك من المصادر غير الكربونية. ونحن نستخدم مراجل وأنابيب تدفئة وأفران تعمل بتسخين الزيت والغاز الطبيعي لتدفئة المباني؛ ولابد من الاستعاضة عنها ببنايات تستخدم الكهرباء للتدفئة. وتعمل المركبات اليوم بإحراق منتجات بترولية؛ ولابد من الاستعاضة عنها بمركبات كهربائية.

كما تعمل السفن والشاحنات الثقيلة والطائرات اليوم بإحراق منتجات بترولية؛ وفي المستقبل يجب أن تعمل باستخدام وقود اصطناعي منتج عن طريق إعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون والطاقة المتجددة، أو باستخدام الهيدروجين المنتج بواسطة الطاقة المتجددة. ولابد أيضا من الاستعاضة عن الوقود الأحفوري المستخدم لتشغيل العمليات الصناعية اليوم، مثل إنتاج الصلب، بالكهرباء.

وبالتالي فإن الإجابة المختصرة تتلخص في الاستخدام المكثف للطاقة الخالية من الكربون، وخاصة الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، في شكل كهرباء. والعالَم لديه القدر الكافي من مصادر الطاقة الخالية من الكربون لتشغيل الاقتصاد العالمي بالكامل ــ بل وتشغيل اقتصاد أكبر كثيرا من الاقتصاد العالمي اليوم.

وتتمثل خطوة أساسية في جلب الطاقة الخالية من الكربون إلى المراكز السكانية التي تحتاج إليها. وهنا يأتي دور رؤية الصين الكبرى. في السنوات الأخيرة، واجهت الصين التحدي المتمثل في تحويل الطاقة محليا. توجد أفضل إمدادات من الطاقة المتجددة لدى الصين (وخاصة طاقة الرياح والطاقة الشمسية) في غرب البلاد، في حين يتركز أغلب سكان الصين والطلب على الطاقة في المنطقة الساحلية (الشرقية) المطلة على المحيط الهادئ. وكانت الصين تعمل على حل هذه المشكلة ببناء شبكة توزيع هائلة تعتمد على نقل الجهد العالي (UHV)، والتي تقلل من فقدان الحرارة على طول الطريق. وتتسم ناقلات الجهد العالي لمسافات طويلة بالكفاءة والفعالية الاقتصادية، وقد قطعت الصين خطوات كبيرة نحو تطوير هذه التكنولوجيا.

والآن تقترح الصين المساعدة في توصيل العالم بأسره بشبكة عالمية لنقل الجهد العالي (UHV). وفي أغلب مناطق العالم، كما هي الحال في الصين، توجد أعلى تركيزات الطاقة المتجددة (مثل الأماكن التي تتمتع بأكبر قدر من سطوع الشمس والرياح) في أماكن بعيدة عن تلك التي يعيش فيها الناس. ولابد من نقل الطاقة الشمسية من الصحراء إلى المراكز السكانية. كما توجد أعلى إمكانات طاقة الرياح في مناطق نائية غالبا، بما في ذلك قبالة السواحل. ومن الممكن أن نجد إمكانات هيدروكهربائية هائلة في أنهار نائية تتدفق عبر مناطق جبلية غير مأهولة.

يتخلص المنطق وراء اقتراح الصين إنشاء شبكة متصلة عالميا في أن الطاقة المتجددة متقطعة. فالشمس تشرق أثناء النهار فقط، بل وحتى أثناء النهار قد تمنع السحب الطاقة الشمسية من الوصول إلى الألواح الضوئية. وعلى نحو مماثل، تتقلب قوة طاقة الرياح. ومن خلال ربط هذه المصادر المتقطعة معا، يصبح من الممكن تخفيف تقلبات الطاقة. فعندما تمنع السحب الطاقة الشمسية في منطقة ما، يمكن استخدام الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح من مكان آخر.

من خلال التفكير في الكبير والضخم، خلقت الصين منظمة مبهرة ــ المنظمة العالمية للتنمية والتعاون في مجال تواصل الطاقة ــ للجمع بين الحكومات الوطنية، وشركات تشغيل الشبكات، والمؤسسات الأكاديمية، وبنوك التنمية، وهيئات الأمم المتحدة لإطلاق شبكة الطاقة المتجددة العالمية. وفي اجتماعها العالمي في مارس/آذار، جمعت المنظمة العالمية للتنمية والتعاون في مجال تواصل الطاقة بين مندوبين من بلدان متباعدة مثل الأرجنتين ومِصر للعمل معا لتحقيق رؤية الطاقة النظيفة المترابطة عالميا.

كما تتخذ الصين عدة خطوات أخرى. فالآن تقوم المنظمة العالمية للتنمية والتعاون في مجال تواصل الطاقة بتعبئة الأبحاث ومشاريع التطوير حول العديد من التحديات التكنولوجية الرئيسية، مثل تخزين الطاقة على نطاق واسع، والتوصيل الفائق الجودة في شبكات نقل الطاقة، والذكاء الاصطناعي، لإدارة أنظمة الطاقة الضخمة المترابطة. كما تقترح المنظمة العالمية للتنمية والتعاون في مجال تواصل الطاقة إنشاء معايير فنية دولية بهدف المواءمة بين شبكات الطاقة في متخلف البلدان في نظام عالمي سلس. كما تستثمر الصين بكثافة في مشاريع البحث والتطوير في مجال توليد الطاقة المتجددة المنخفضة التكلفة، مثل الخلايا الكهروضوئية المتقدمة، والاستخدامات النهائية مثل المركبات الكهربائية العالية الأداء.

ينبغي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المشاركة في نفس النوع من حل مشكلات الطاقة، كما ينبغي لهما التعاون مع الصين وغيرها من الدول للتعجيل بالتحول إلى الطاقة الخالية من الكربون. ولكن من المؤسف أن حكومة الولايات المتحدة وهيئاتها التنظيمية أصبحت في عهد الرئيس دونالد ترمب خاضعة تماما لسطوة جماعات ضغط الوقود الأحفوري، في حين يتنازع الاتحاد الأوروبي مع دوله الأعضاء المنتجة للفحم حول كيفية التخلص التدريجي من الفحم ومتى.

الواقع أن تواصل الطاقة العالمي الذي تقترحه الصين ــ والذي يستند إلى شبكات نقل الجهد العالي (UHV)، وشبكة ذكية تدار باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ــ يمثل بالتالي المبادرة العالمية الأكثر جرأة وإلهاما من قِبَل أي حكومة لتحقيق أهداف اتفاق المناخ في باريس. إنها استراتيجية تتناسب مع الحجم غير المسبوق لتحول الطاقة الذي يواجه جيلنا.

================================

ترجمة: إبراهيم محمد علي  / project syndicate        

* البروفيسول جيفري ساكس :  أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسات والإدارة الصحية في جامعة كولومبيا ، وهو مدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة. تشمل كتبه “نهاية الفقر ، والثروة المشتركة ، وعصر التنمية المستدامة ، ومؤخرا” بناء الاقتصاد الأمريكي الجديد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!