آفاق بيئية : نجيــب صعــب
يدافع بعضهم عن تدمير البيئة وهدر الموارد الطبيعية كضرورة لإيصال الخدمات إلى الفقراء. فلا بأس والحال هذه إذا كان تلويث الهواء واستنزاف التراب ثمناً لتوفير الكهرباء والماء والغذاء إلى المحتاجين. حين عارضت مؤخراً صديقي الذي يتبنى هذه النظرية، ذكّرني بمقال كتبتُه عام 1996، جاء فيه أنه قد يكون واجباً القبول بضرر بيئي محدود في المدى القصير، إذا كان لا بد منه لتحقيق نمو اقتصادي يساعد المجتمعات الفقيرة على حماية بيئتها في المدى البعيد. لكن غاب عن صديقي أن التكنولوجيا تتطور والعالم يتغير، وما كان صحيحاً قبل عشرين عاماً قد لا يصحّ اليوم. فقد تبيّن أن التناقض بين حماية البيئة وتحقيق التنمية أمر مصطنع، واعتماد معايير الاستدامة يضمن فصل التقدُّم على التلوث وتدمير الموارد.
أنا ما أزال عند موقفي من أن إنقاذ الفقراء من براثن الجوع والعوز واجب أخلاقي يتجاوز أي اعتبار آخر. لكن إيصال الكهرباء اليوم إلى فقراء الأرياف عن طريق استخدام الطاقة المتجددة، وخاصة من الشمس، هو، في معظم الحالات، أرخص من توليدها في محطات مركزية وتوزيعها عبر الشبكات. فخلال عشرين عاماً انخفضت كلفة إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة أكثر من عشر مرات. ولدينا في دول الجوار نماذج ناجحة، كما في الإمارات والمغرب والأردن. وتحسين كفاءة إنتاج الطاقة واستهلاكها يؤدي إلى وفورات كبيرة. هكذا أصبح الخيار بين البيئة والتنمية مجرد افتراض وهمي. والواقع أن البعض يستخدمون الدفاع عن حقوق الفقراء كحجة للاستمرار في ممارسات تدمّر الموارد لزيادة أرباح بعض الشركات الكبرى.
ليس صحيحاً أن التخريب البيئي ثمن لا بد من دفعه لقاء إنجاز النمو الاقتصادي، بحجة أنه يمكن معالجة الآثار على البيئة بعد حصولها. فتخفيف التلوث الناتج من المصانع عن طريق التحول إلى أساليب إنتاج حديثة هو البديل عن التخلص من الفضلات الصناعية بعد إنتاجها. وتقليل كمية النفايات المنزلية، عن طريق تعديل العادات الاستهلاكية وإعادة الاستعمال، يقلل الحاجة إلى مزيد من المزابل والمحارق.
تدمير البيئة والموارد يبقى الأرخص والأكثر ربحاً للصناعات، ما دام ثمن التخريب البيئي خارج حسابات الربح والخسارة. ولكن ماذا يستفيد الفقراء من تزويدهم بمصادر طاقة وسخة، إذا كانت ستعطيهم مع الكهرباء هواءً ملوثاً يصيبهم بأمراض لا قدرة لهم على تحمل تكاليف علاجها؟
التنمية القابلة للاستمرار تقوم على توازن الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. والخطر ليس فقط في السياسات الاقتصادية المنفلتة من قيود احترام البيئة سعياً لمزيد من الأرباح. ففي المقابل، هناك نظريات أصولية لبعض غلاة البيئة تقف في وجه التكنولوجيا والتنمية الاقتصادية عموماً. والواقع أن التكنولوجيا الملائمة ضرورية لخدمة البيئة والاقتصاد معاً، وهي تتيح استخداماً أكثر فعالية للموارد، يحميها ويؤدي إلى تخفيف الآثار الضارة بالبيئة. ومع أن النمو الاقتصادي يتسبب غالباً في استهلاك أكبر للموارد، غير أنه، من ناحية أخرى، يسهّل إيجاد حلول للمشاكل البيئية. فلا يمكن أن نُقنِع جائعاً لا يعلم إذا كان سيحصل في الغد على غذاء يجنبه الموت، بأهمية زراعة شجرة تعطيه غذاء بعد سنوات.
نحن لسنا على خلاف يا صديقي. واهتمامي بترقية الفقراء ليس أقل من اهتمامك. لكن يمكن اليوم، عن طريق التقدم التكنولوجي وتبديل أنماط الإنتاج والاستهلاك، إعطاء الفقراء حقوقهم الإنسانية وتأمين توزيع عادل للثروة، بعيداً عن تدمير البيئة.
هذا هو جوهر التنمية المستدامة، التي تقوم على منح الجيل الحاضر حقوقه في حياة كريمة، مع الحفاظ على حقوق الأجيال المقبلة، بما يعطي فرص التقدم الحقيقي، القابل للاستمرار، للفقراء والأغنياء معاً.
الذي ما برح يتحدث اليوم عن حتمية تدمير البيئة لإطعام الفقراء ينتمي إلى عصر غابر.
(يُنشر بالاتفاق مع مجلة “البيئة والتنمية”)