آفاق بيئية: محمد التفراوتي
على امتداد شواطئ البحر المتوسط والبحر الأسود، حيث تتداخل زرقة المياه مع ذاكرة الملاحة القديمة ورائحة الملح التي لا تهدأ، تتواصل المخاوف بشأن استدامة مصايد الأسماك، غير أن ملامح الأمل بدأت ترسو في الأفق. فقد سجلت المنطقة أدنى مستويات الصيد المفرط منذ عشر سنوات، بينما بدأت تربية الأحياء المائية تتقدم بثبات لتصبح مصدرا أساسيا لتغذية ملايين الأشخاص. ويكشف تقرير جديد صادر عن الهيئة العامة لمصايد أسماك البحر التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة عن بوادر تقدم مشجعة، بعد ظهور مؤشرات تعافٍ لعدد من الأرصدة البحرية الرئيسية.
ومن تركيا إلى تونس، ومن اليونان إلى جورجيا، تشهد مرافئ المنطقة اختبارات متواصلة لمعدات الصيد وبرامج التدريب، بينما يبرز التقرير الصادر من روما ليؤكد أن الإقليم يعيش تحولا هادئا ولكنه ثابت. وبينما ما تزال تحديات الاستدامة قائمة، إلا أن نسبة الأرصدة التي تتعرض للصيد المفرط انخفضت إلى مستوى غير مسبوق خلال عقد كامل، وهو تحول يتزامن مع الازدهار المتسارع لتربية الأحياء المائية التي باتت تشكل أحد الأعمدة الرئيسية لإنتاج الأغذية المائية في المنطقة.
ويعرض تقرير حالة مصايد أسماك البحر والبحر الأسود لعام 2025 حجم التقدم المحقق بفضل الإدارة القائمة على الأدلة والتعاون الإقليمي الواسع، إذ تقلص الضغط على المصايد إلى النصف خلال السنوات العشر الأخيرة، وبدأت المخزونات الرئيسية تستعيد جزء من عافيتها. وفي الوقت ذاته، ارتفع دور تربية الأحياء المائية لتساهم بأكثر من خمسة وأربعين في المائة من إنتاج الأغذية المائية في المنطقة، بعد أن تجاوز الإنتاج في عام 2023 تسعمائة وأربعين ألف طن في المياه البحرية والمياه المسوسة. وبلغ الإنتاج الإجمالي للمصايد وتربية الأحياء المائية وسلاسل القيمة المرتبطة بهما أكثر من مليوني طن بقيمة تجاوزت واحدا وعشرين مليارا ونصف المليار دولار، مساهما في دعم أكثر من مليون ومئة وسبعين ألف فرصة عمل.
ويشير “مانويل بارانج” المدير العام المساعد في منظمة الأغذية والزراعة إلى أن الطريق ما يزال طويلا، لكن المؤشرات الإيجابية باتت واضحة. فالجهود العلمية، والحوار المستمر مع المهنيين، والالتزام الراسخ بالإدارة الرشيدة، جميعها تمنح الأرصدة البحرية فرصة جديدة للتعافي، فيما تبرهن تربية الأحياء المائية قدرتها على تلبية الطلب المتزايد إذا أديرت بمسؤولية وحكمة.
ويرصد التقرير تقييما لعدد كبير من المخزونات البحرية، مسجلا انخفاضا حادا في معدلات الوفيات الناجمة عن الصيد بين عامي 2013 و2023، يقابله ارتفاع بنسبة خمسة وعشرين في المائة في الكتلة الحيوية للأنواع التجارية المقيمة. وتبرز نتائج إيجابية في أنواع مثل ” البوري المقلم” ( (Mugilidae)) و “الروبيان الأحمر العملاق” (Aristaeomorpha foliacea) و”سمك موسى” (Trachinotus carolinus) في الأدرياتيك و”سمك التربوت” (Scophthalmusmaximus) في البحر الأسود، بينما تستمر أصناف مثل السردين في مواجهة مستويات استنزاف مقلقة، ويظهر “النازلي الأوروبي”( Merluccius merluccius) تحسنا محدودا رغم تراجع معدلات النفوق الناتجة عن الصيد.
وعلى الرغم من التقدم، ما تزال اثنان وخمسون في المائة من الأرصدة في وضع استغلال مفرط، وهي نسبة أقل كثيرا مما كانت عليه قبل عقد (87في المائة)، لكنها ما تزال مرتفعة قياسا بمعايير النظم الإيكولوجية الصحية. كما تستمر تحديات أخرى، من بينها تعزيز الامتثال، وتجديد القوة العاملة، والحد من الصيد العرضي للأنواع المهددة.
ويمثل قطاع تربية الأحياء المائية أحد أبرز محركات التحول في المنطقة، إذ يواصل نموه السريع وتزداد قيمته الإجمالية، عند احتساب المياه العذبة، إلى أكثر من تسعة مليارات دولار، متجاوزا ثلاثة ملايين طن من الإنتاج. ويتركز الإنتاج أساسا في أحد عشر نوعا، أبرزها “الدنيس” (Daurade Royale) و”الشبص الأوروبي” (Dicentrarchus labrax)، فيما تتصدر تركيا ومصر واليونان قائمة الدول المنتجة، لتصبح تربية الأحياء المائية ركنا أساسيا في الأمن الغذائي وسبل العيش الساحلية.







































